يرقى النهج الذي عبّر عنه الرئيس السوري بشّار الأسد في خطابه الأخير إلى بداية تحوّل ضخم ونوعيّ في توجّهات سوريا السياسيّة، ومن ثم في المعادلات الإقليميّة التي حكمت المنطقة وتحكمها. وهو لئن حاول تخفيف ذاك التحوّل، في المقابلة التلفزيونيّة مع "قناة دبي" التي أعقبت الخطاب، بقي أن الخطوط العامّة ظلّت هي نفسها لم تتغيّر. والحال أن العنصر الأهم الذي يسمح بالكلام عن تحوّل نوعيّ هو الافتراق عن الخطّ المصريّ- السعوديّ والانتقال إلى درجة غير مسبوقة قبلاً من الالتحام بالموقف الإيرانيّ. ذاك أننا إذا ما نظرنا إلى التاريخ الحديث لسوريا وجدنا أن البلد ارتبط، ما خلا سنوات قليلة "شاذّة"، بعلاقات حميمة مع القاهرة والرياض، فيما اتّصلت علاقات كهذه بوظائف محدّدة وبالغة الأهمية توخّتها دمشق على اختلاف عهودها السياسيّة. فمن طريق مصر والسعوديّة كانت سوريا توازن الثقل العراقيّ، المعادي لها في أغلب المراحل، وأحياناً العراقيّ– الأردنيّ الذي كان قد تبلور أثناء حكم الهاشميّين للبلدين في الخمسينيات، إبّان "الحرب على سوريا" حسب تعبير باتريك سيل. واستمرّت الخريطة السياسيّة هذه بمثابة معادلة لا تخطئ منذ وصول حافظ الأسد إلى سدّة الرئاسة في 1970، لتبلغ أوجها إبّان الحرب بين نظامي صدّام حسين والخميني طوال الثمانينيات. ولئن أمّنت العلاقة بالرياض دعماً ماليّاً لم ينقطع، فإن الصلة بها، كما بالقاهرة، وفّرت التغطية العربيّة المحافظة لسنوات التحالف مع الاتحاد السوفييتيّ، وهو تحالف عاش حتى انهيار الدولة الشيوعيّة أوّل التسعينيات. ولما كانت مصر والسعوديّة بلدي السنيَّة العربيّة الأبرزين، أحدهما لوقوع الحرمين فيه والآخر لعدد سكانه ودور الأزهر والإسلام في تاريخه ووعيه، بات التقارب معهما حجّة ضدّ الإسلاميين السوريّين الذين يتّهمون النظام البعثيّ بأنه نظام للسيطرة العلويّة على المجتمع والدولة. والحقّ أن الفوائد التي جنتها دمشق من وراء تقاربها مع القاهرة والرياض لا تُحصى. فبسبب السعوديّة غالباً ما اتجهت دول الخليج الأخرى إلى مراعاة سوريا ومدّها بالمساعدات على أنواعها، كما ارتبط النفوذ الإقليمي الذي أحرزته الأخيرة في لبنان بمظلّة مصريّة- سعوديّة عبّرت عن نفسها بقمم شهيرة في تاريخ الدبلوماسيّة العربيّة، كقمّتي الرياض والقاهرة في 1976 اللتين أعلنتا نهاية "حرب السنتين" وتشكيل قوات الردع العربيّة (التي ما لبثت أن صارت لاحقاً قوات ردع سوريّة فحسب)، أو كمؤتمر الطائف في 1989 الذي اعتُبر نهاية للحرب اللبنانيّة المديدة وتأسيساً يكرّس العلاقات الخاصّة و"وحدة المسارين" بين سوريا ولبنان. وهذا كي لا نذكّر بتجارب أسبق عهداً مثل خوض القاهرة ودمشق حرب 1967 جنباً إلى جنب، بعد عقدهما معاهدة دفاع مشترك، ثم اتّفاقهما، بعد عامين، على فرض "اتفاق القاهرة" على لبنان تسهيلاً لعمل المقاومة الفلسطينيّة على حساب السلطة الشرعيّة اللبنانيّة ونفوذها فوق أرضها. والعلاقة هذه عرفت، في امتدادها التاريخيّ، ذروتين، إحداهما شهدها عام 1973 مع قيام حرب أكتوبر بتضافر بين الجنديين المصريّ والسوريّ وبين النفط السعوديّ، في ظلّ شعار "التضامن العربيّ"، ثم مع حرب تحرير الكويت حيث وقفت الرياض والقاهرة ودمشق في موقع عسكريّ وسياسيّ واحد مناهض لصدام حسين وغزوه. صحيح أن العلاقات السعوديّة- السوريّة تردّت كثيراً خلال سنوات 1966- 1970 مع استيلاء اليسار "القطريّ" والعسكريّ لحزب البعث على السلطة في دمشق واتّباعه سياسات عربيّة واقتصاديّة بالغة الراديكاليّة، تأدَّى عنها انقطاع النفط السعوديّ عبر الأراضي السوريّة. كذلك تردّت العلاقات المصريّة- السوريّة في الفترة الفاصلة ما بين توجّه الرئيس الراحل أنور السادات إلى القدس، أواخر 1977، ومصرعه في أواخر 1981، إذ اعتبر السوريّون أن سياسة الصلح التي اتّبعها "تفريط وخيانة". لكن الصحيح أيضاً أن الفترات العابرة تلك كانت الاستثناءات التي تؤكّد القاعدة الأعمّ. في المقابل، لم تبتدئ علاقات دمشق بطهران إلا بعد قيام ثورة الخميني الإسلاميّة في 1979. فهي، بالتالي، لا تملك عمقاً تاريخيّاً بعيداً، أو سوابق تُقاس بها ويُحتكم إليها. وما من شكّ في أن العلاقات تلك تنامت وتعزّزت بوتائر سريعة منذ ذلك الحين، محكومةً بعدد من الاعتبارات أهمّها عداء البلدين لنظام البعث الحاكم في العراق يومها، والتقاؤهما عند توجهّات مشتركة حيال السياستين الأميركيّة والإسرائيليّة، ومن ثمّ اتّفاقهما على استخدام "الساحة" اللبنانيّة ودعم "حزب الله" فيها. بيد أن قوميّة حزب البعث وإسلاميّة الثورة الإيرانيّة، معطوفتين على فوارق القوميّة واللغة، أبقت صلة دمشق بطهران أقرب إلى الاندراج في خانة الحساب "الاستراتيجيّ" والاعتبار "المصلحيّ" منها إلى علاقات تكامليّة تنعكس على الصعد القاعديّة أو الفكريّة. ومثلما نجح حافظ الأسد في التوفيق بين صداقته للرياض وصداقته لموسكو، نجح في الجمع بين علاقاته مع المحافظين العرب وعلاقاته مع طهران، فاستخدم صداقاته الإيرانيّة لتقوية موقعه عند المحافظين العرب، واستخدم انتماءه العربيّ، والنفوذ الأدبيّ الذي أمّنه له، لتحسين موقعه لدى الإيرانيّين. وبالمعنى هذا كانت طهران في حاجة إلى دمشق لا تقلّ عن حاجة دمشق إليها. لكن ذلك جميعاً مما تغيّر مع نجله بشّار إزاء الرئيس الإيرانيّ الجديد أحمدي نجاد. ذاك أن الخروج العسكريّ من لبنان والحصار الدوليّ الذي أنزله بدمشق اغتيال رفيق الحريري أضعفا سوريّا بقدر ما قويت إيران من جرّاء تطوّرات ثلاثة: إزاحة نظام "طالبان" في أفغانستان، وإزاحة نظام صدّام في العراق، والارتفاع الهيوليّ في أسعار النفط. وكائناً ما كان الأمر، فإن المنطقة تشهد، بنتيجة العوامل المذكورة، انقلاباً في معادلاتها يصعب التكهّن بكامل الآثار التي ستنجرّ عنه على المديين المتوسّط والبعيد. ما يمكن قوله الآن، بقليل من المغامرة، إن دمشق (ومعها "حزب الله" اللبناني بالرصيد الجماهيريّ الذي أحرزه بعد الحرب الأخيرة) سيتحوّلان قاطرة لنفوذ إيرانيّ يصل إلى دوائر كانت عصيّة في السابق على طهران. وفي المجال هذا، يُخشى في صورة مميّزة على ساحات الالتحام الجغرافيّ المباشر كمنطقة الخليج. وما يضاعف القلق ضلوع النظام الإيراني الحاليّ في مشروع تخصيبيّ غامض وملتبس، علماً بأن النظام المذكور لم يبدِ ما يطمئن العرب إلى نواياه، هو الذي لا يزال يحتفظ بالجزر الإماراتيّة الثلاث التي احتُلّت في عهد الشاه ولا تزال محتلّة بعد مرور أكثر من ربع قرن على ولادة العهد الجمهوريّ الإسلاميّ. لكنْ عملاً بمعادلة الكسب الإيرانيّ مقابل الخسارة السوريّة، تجد دمشق نفسها، هي التي تربطها بالعواصم الغربيّة كلّها علاقات بالغة الرداءة، في حال من العراء حيال أي عدوان عسكريّ إسرائيليّ قد يجدّ أو أيّ حصار سياسيّ غربيّ قد يُلجَأ إليه. وهو وضع لن تستطيع إيران نجدتها فيه. إن سوريا اليوم في أمسِّ الحاجة إلى توسيع دائرة الأصدقاء، ما بين لبنان والعالم مروراً بمصر والخليج، وإلى استخدام معطيات جغرافيّتها السياسيّة لإحداث انفراجات تستفيد منها كما يستفيد منها محيطها برمّته. وهي مسألة يصعب الإقدام عليها من دون الإقدام على انفراجات داخليّة تسمح بقدر من التعدّد والحريّات في البلد فلا تتركه لقمة سائغة لمن يريد بسوريا شرّاً. فالحقيقة التي تصيب، هنا أيضاً، مفادها أن سياسات التشدّد في الداخل تقود إلى سياسات توتّر وتوتير مع الخارج، والعكس صحيح. فهل يستجيب النظام السوريّ لمثل هذه الضرورات أم يمضي في نهج ليس من المبالغة في شيء وصفه بأنه مهدّد للجميع وفي الآن نفسه انتحاريّ بحقّ الذات؟