كنت قد أشرت في الأسبوع الماضي إلى جملة من الأسباب التي ربما تجعل من إيران طرفاً خاسراً في هذه الحرب اللبنانية الأخيرة. وكان الافتراض الأساسي الذي اعتمدت عليه في تقديراتي تلك, أنه ربما يتم لجم "حزب الله" وقص أجنحته العسكرية, جراء التفوق العسكري الإسرائيلي والتدخل والضغوط الدبلوماسية التي تمارسها القوى الخارجية عليه. لكن وعلى إثر صدور قرار وقف إطلاق النار, وتنامي الشعور بعجز إسرائيل عن بسط هيمنتها ونفوذها على مجريات هذه الحرب ونتائجها, فقد برز "حزب الله" بصورة الطرف المنتصر فيما يزعم, حتى وإن كان ذلك لمجرد صموده في وجه الضربات الإسرائيلية العنيفة التي وجهت له. وفي ظل ظروف كهذه, تبدو إيران بصفتها راعياً رئيسياً لـ"حزب الله", الغانم الأكبر من هذه الحرب, ما يشجعها على زيادة نفوذها في لبنان. ويمكن لها تحقيق هذا الهدف بعدة وسائل وطرق. أولها أن هناك مشروعات إعادة إعمار ضخمة في مرحلة ما بعد الحرب هناك, لا سيما في مناطق الكثافة الشيعية التي تعرضت للقصف أكثر من غيرها في جنوبي البلاد. ومما لا شك فيه أن إيران ستكون في مقدمة الدول الغنية الراغبة في تمويل مشروعات إعادة التعمير هذه. بل إن في وسعها تمديد نفوذها وأذرعتها إلى المناطق غير الشيعية, حيث تزداد الحاجة لإعادة تعمير البنية التحتية التي تسع خدماتها لبنان بأسره. وفي ظل هذا الفوز المنسوب لـ"حزب الله", مصحوباً بالسخاء الإيراني الفياض على مشروعات إعادة بناء لبنان, فإنه يتوقع أن يصعب الأمر كثيراً على أولئك الساسة اللبنانيين المتحرقين شوقاً إلى وضع حد لهذا القران الذي يجمع بين بلادهم وإيران. وهذا لا يعني بالطبع أن يتوحد جميع الشيعة هناك في تأييدهم لـ"حزب الله" وطهران في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب. بيد أنه يجب علينا ألا ننسى حقيقة أن في كثافة الكتلة السكانية الشيعية بحد ذاتها, وهي كثافة تقدر بنحو 45 في المئة من إجمالي تعداد السكان, ما يضمن لهذه الكتلة وأحزابها السياسية الممثلة لها–بما فيها "حزب الله"- تمثيلاً معتبراً في البرلمان اللبناني, فضلاً عن إضفاء مشروعية كبيرة على مطالبها الخاصة بأولويات الحكومة اللبنانية المقبلة. وفي هذا ما يشير في المقابل إلى إضعاف كفة الساسة العلمانيين أمام "حزب الله", وعجزهم عن مقاومة مطالبه وسياساته, بما فيها تمسكه بأسلحته وذراعه العسكري. على أن الذي لا يزال مبهماً حتى هذه اللحظة, الاستجابة السورية لما بدا نصراً مؤزراً لكل من "حزب الله" وطهران. والمعلوم أن قران تواؤم ما لا يزال يجمع بين دمشق وطهران. كما يعرف عن سوريا أن بها كثافة سكانية كبيرة ذات هوية عربية, وأنها دولة ذات وجهة علمانية في الأساس. إلى ذلك تضاف حقيقة أن في مقدمة الأجندة والأولويات السورية–علاوة على انشغال النظام السوري ببقائه أمام الضغوط الدولية والأميركية المتصاعدة عليه- النزاع العربي الإسرائيلي, سيما استمرار احتلال إسرائيل لهضبة الجولان السورية. يذكر هنا أن السياسة الرسمية التي تتبناها دمشق إزاء تل أبيب تقوم على مرتكزات المبادرة العربية التي صدرت في قمة بيروت المنعقدة في فبراير من عام 2002, مع العلم أنها دعت إلى الاعتراف بإسرائيل شريطة أن تحل القضايا الحدودية العالقة، ويتم الاتفاق على حقوق اللاجئين الفلسطينيين. وبهذا المعنى، فهي تقر شرعية دولة إسرائيل ما أن يتم التوصل إلى اتفاق نهائي سلمي معها. غير أنه يبقى مجهولاً حتى هذه اللحظة, ما إذا كان "حزب الله" وطهران سيوافقان على صفقة سلمية كهذه. ومما لا ريب فيه أن قسماً مؤثراً في تيار الإصلاحيين الإيرانيين يبدي موافقته على صيغة حل تقوم على الإعلان عن دولتين مستقلتين متجاورتين جنباً إلى جنب في فلسطين, ما أن تحل كافة القضايا العالقة بين الطرفين, ويتم التوصل إلى حل عادل لها. بيد أن هناك تيار الرئيس الإيراني المتشدد وخطابيته النارية الداعية لإزالة إسرائيل ومحوها من الوجود كليةً. ولذلك فإن الغموض لا يزال يكتنف الأجندة الإيرانية في لبنان على إثر هذا الفوز الذي حققه "حزب الله", وما إذا كانت ترغب طهران في أن تكون في مقدمة الدول الداعية إلى تسوية النزاع العربي- الإسرائيلي, أم أنها تميل إلى خدمة أجندتها الخاصة المعادية لمخططات واشنطن وتل أبيب ضد برامجها النووية؟