شهر انقضى منذ أطلق "حزب الله" الطلقة الأولى في معركته العسكرية التي أوقعت عدداً من الجنود الإسرائيليين قتلى وأدت إلى أسر جنديين، إلى أن صدر قرار مجلس الأمن بوقف الأعمال العدائية وما تضمنه من بنود أخرى. ولاشك أن هذه الحرب بكل ما دار فيها من معارك ومجازر ومآسٍ ومفاجآت، تثير عديداً من الأسئلة تتعلق بالماضي والحاضر والمستقبل. ولعل السؤال الأول هو: هل صحيح أن معركة "حزب الله" المحدودة والتي كان الغرض منها مبادلة الجنديين الأسيرين بالأسرى اللبنانيين والعرب المحتجزين لدى إسرائيل منذ عقود هي التي أشعلت الحرب المفتوحة؟ أم أنه كما ورد في عديد من التقارير فإن الخطة الإسرائيلية لضرب لبنان والقضاء نهائياً على "حزب الله" كانت جاهزة بالفعل بتواطؤ من الولايات المتحدة الأميركية، وأنها فقط كانت تنتظر الذريعة؟ والسؤال الثاني: هل توقع "حزب الله" أن يكون الرد الإسرائيلي بهذه الصورة، أي بحرب شاملة ضد لبنان، أم أنه كان يعتقد أن الأمور ستسير كما سارت من قبل في حادثة مشابهة، حين بادل "حزب الله" ثلاث جثث لجنود إسرائيليين وأسيرين، بمئات الأسرى اللبنانيين والفلسطينيين، وذلك عبر مفاوضات غير مباشرة، قامت فيها ألمانيا بالدور الأكبر؟ السؤال الأول الذي طرحناه يثير إشكالية الخطة الهجومية المسبقة التي أعدتها إسرائيل، والذريعة التي قدمها لها "حزب الله". وهي لاشك تجعلنا نتذكر الموقف الذي سبق حرب يونيو 1967. قبيل هذه الحرب أبلغت مصر أن حشوداً إسرائيلية تجمعت على الحدود السورية لمهاجمة سوريا، واستنفرت مصر قواتها المسلحة استعداداً للدفاع عن البلد العربي الشقيق، وخصوصاً أن مصر في هذا الوقت كانت بقيادة جمال عبدالناصر رائد القومية العربية. وأرسلت مصر وفداً عسكرياً عالي المستوى للتحقق من حكاية الحشود الإسرائيلية، وأبلغه السوريون أنه ليست هناك حشود. وعاد الوفد العسكري بعد أن كانت عجلة الحرب قد دارت! فقد أرسلت مصر قواتها المسلحة إلى سيناء كنوع من الردع لإسرائيل حتى لا تباشر العدوان على سوريا. غير أن هذه القوات أرسلت -للأسف الشديد- بغير خطة واضحة، وسرعان ما ظهر جلياً تعثر القيادة العسكرية المصرية في تحديد الهدف الاستراتيجي من تحريك القوات، مصاحباً لعشوائية بارزة في عملية إصدار القرار السياسي. دارت عجلة الحرب حين أمرت مصر قواتها، بإغلاق المضيق وطلبت من الأمم المتحدة سحب قواتها التي كانت مرابطة على الحدود. واعتبرت إسرائيل أن ذلك يعد قراراً بالحرب عليها. وهكذا بدأت في الخامس من يونيو حربها ضد مصر، التي انتهت إلى ما نعرفه جميعاً من احتلال سيناء والضفة الغربية والجولان، ومن هنا تبدو أهمية العلاقة الوثيقة بين الخطة الهجومية الإسرائيلية المسبقة والذريعة. الخطة الإسرائيلية كانت جاهزة وفي انتظار الذريعة التي قدمتها لها مصر بقراراتها غير المدروسة. والسؤال: هل ما حدث بين "حزب الله" وإسرائيل يماثل ما حدث بين مصر وإسرائيل في حرب يونيو 1967؟ وإذا كان ذلك صحيحاً فإنه يؤكد أن ثمة قصوراً عربياً في مجال قراءة التغيرات الجوهرية في بنية النظام الدولي، وعجزاً عن اختيار التوقيت الملائم، وعدم الاستشراف الدقيق لردود الفعل المتوقعة. والسؤال الثاني يتعلق بالميل عند صانع القرار –أياً كان إسرائيلياً أو عربياً- لإعادة إنتاج قراراته السابقة التي نجحت وتطبيقها في ظل ظروف متغيرة. "حزب الله" أراد أن يكرر ما فعله من قبل في حادثة مبادلة الأسرى التي نجح فيها نجاحاً ساحقاً ربما أغراه بتكرارها، وإسرائيل بحربها الشاملة ضد لبنان وتدميرها للبنية التحتية وهجومها على المدنيين وترويعهم ودفعهم للهجرة إلى الشمال، ربما ظنت أنها ستعيد أمجادها السابقة في الانتصار على العرب في معارك مشهودة. ومن هنا لم تتوقع مقاومة مقاتلي "حزب الله"، وفوجئت بنوعية الأسلحة التي يمتلكها، ومستوى التدريب المتقدم للمقاتلين. وأكثر من ذلك أصيبت بصدمة حين اكتشفت أن "حزب الله" طوال السنوات الماضية أعد مسرح الحرب في الجنوب إعداداً متقناً، عن طريق شبكات معقدة من الخنادق والأنفاق، أتاحت لمقاتلي "حزب الله" صد الهجوم البرى الإسرائيلي في مواضع متعددة، وإيقاع خسائر كبيرة في الأفراد والمعدات. ولقد روجت إسرائيل منذ إنشائها لأسطورة مفادها أنها لا تقهر، غير أن هذه الأسطورة كانت قد تبددت إلى حد كبير في حرب أكتوبر 1973، والتي حققت فيها مصر انتصاراً بارزاً على القوات الإسرائيلية. غير أن معركة أكتوبر كانت معركة أسلحة مشتركة بين جيشين نظاميين مزودين بالطائرات والدبابات والصواريخ والمدافع، في حين أن معركة "حزب الله" دارت بين حركة مقاومة محدودة وإن كانت مشكلة من مقاتلين على أعلى مستوى تدريبي، بالإضافة إلى روح الفداء التي تملؤهم، والإيمان المطلق بقضيتهم، وانتمائهم العميق إلى أرض لبنان، وبين الجيش الإسرائيلي الذي روج له باعتباره من أقوى الجيوش العالمية. لقد دارت المعركة التي أثبت قدرة حركة مقاومة محدودة من خلال إتقانها تكتيك حرب العصابات، والإبداع في هذا المجال، على مواجهة القوات المسلحة الإسرائيلية المزودة بأحدث تكنولوجيات السلاح الأميركي المتطور. لقد فشلت إسرائيل فشلاً ذريعاً في المواجهة العسكرية مع "حزب الله"، ولذلك أفرغت طاقتها كلها في الغارات العسكرية ضد المدنيين وضد لبنان كله، مستفيدة من غياب قوات مسلحة لبنانية لديها الوسائل الحديثة في ردع الطيران الإسرائيلي، الذي دمر وخرب على نطاق واسع المدى، بل وارتكب من المجازر ما يعد جرائم ضد الإنسانية. ومن هنا يمكن القول إن هيبة الجيش الإسرائيلي التي سقطت في تراب المعارك تعد مؤشراً للمستقبل. ونعني بذلك أنه لا يجوز أبداً التأثر بالدعايات الفجة عن إسرائيل التي لا تقهر، وعلى المجتمع العربي وفقاً لاستراتيجيات مدروسة أن يعد لمعارك قادمة مع إسرائيل التي لن ينقطع عدوانها على العالم العربي بحكم طبيعتها الصهيونية التوسعية. وهذه الاستراتيجية ينبغي أن تقوم على أساس إحكام الصلات الوثيقة بين الجيوش النظامية والمجتمعات المدنية التي ينبغي اعتبارها امتداداً لهذه الجيوش. وإذا كان صدور قرار مجلس الأمن بوقف العمليات الحربية يعد خطوة إيجابية بعد تلكؤ غير مقبول وتحيز أميركي مفضوح، إلا أنه ينبغي منذ الآن أن نثير قضية المحاسبة على ما دار في الحرب. لابد أولاً من مساءلة مجرمي الحرب الإسرائيليين الذين أمروا بشن الغارات ضد المدنيين وقاموا بمجازر قانا وغيرها. ولابد أن يلزم المجتمع الدولي –إن كان هناك ضمير– إسرائيل بدفع التعويضات المناسبة لتدميرها للبنية التحتية اللبنانية، وذلك خرقاً لقواعد الحرب التي تمنع المغالاة في رد الفعل. ولابد للمجتمع الدولي أن يقوم بمسؤولياته في إعادة إعمار لبنان، وذلك بعد التواطؤ الذي حدث بين عديد من البلاد الغربية وإسرائيل على ضرب لبنان. وإذا كنا طرحنا بعض الأسئلة الخاصة بالحرب، فإن هناك أسئلة أخرى متعددة خاصة بتحديات السلام. وخصوصاً في وجود خطة أميركية حمقاء تدعو لتأسيس "شرق أوسط جديد" على أساس إثارة الفوضى الخلاَّقة، والتي ليس لها معنى سوى تخريب المدن وتدمير المجتمعات، كما حدث في العراق وفلسطين ولبنان. إن دروس الحرب الإسرائيلية- اللبنانية حافلة، وهي لا تتعلق بالحاضر فقط، ولكنها تتعلق بآفاق المستقبل العربي، في ظل عولمة متوحشة، وهيمنة أميركية مطلقة.