قد يكون من السابق لأوانه إجراء حسابات لمرحلة ما بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، فالتداعيات لم تبدأ بعد. لكن من الثابت أن كرة الثلج بدأت في التدحرج وعندما تصل إلى منتهاها لن تقوى على الوقوف في وجهها أي قوة. لعل أول ما تطرحه هذه الحسابات هو أن دور لبنان قد انتهى كمسرح لحروب الآخرين، إقليميين كانوا أو دوليين. لقد كان لبنان منذ عام 1969 مسرحاً لسلسلة من هذه الحروب... لعل آخرها الحرب التي "انتهت" بصدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701. كان لبنان مسرحاً لحرب فلسطينية- إسرائيلية، خاصة بعد أحداث "أيلول الأسود" في الأردن عام 1970. ولما ساءت العلاقات الفلسطينية- السورية، أصبح لبنان مسرحاً لصراع دموي طويل بين سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية. ثم كان مسرحاً لحرب سورية- إسرائيلية في عام 1982. وقبل ذلك وبعده كان مسرحاً لصراع دامٍ بين سوريا والعراق، إلى أن سقط نظام صدام حسين. وقبل سقوط هذا النظام، كان لبنان مسرحاً لتصفية حسابات عراقية- إيرانية بالقوة العسكرية. دون أن يعني ذلك رفع المسؤولية عن اللبنانيين أنفسهم الذين صنعوا باختلافاتهم الداخلية ثغرات واسعة لكل التدخلات الإقليمية. كذلك كان لبنان مسرحاً لصراع مسلح بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأميركية. وقد وقعت عدة اصطدامات فوق سماء لبنان بين الطائرات السوفييتية المنطلقة من قواعد لها في سوريا، والطائرات الأميركية التي كانت تنطلق من قطع الأسطول السادس داخل المياه الإقليمية اللبنانية. وليس صدفة أن كل تلك الحروب والاصطدامات المسلحة توقفت فجأة عام 1989، وليس صدفة أيضاً تعطيل كل محاولات الوفاق التي قام بها اللبنانيون طوال سنوات الحروب التي عصفت بهم، إلى أن سُمح بعقد مؤتمر الوفاق الوطني اللبناني في الطائف عام 1989. في ذلك العام انتهت الحرب الباردة، وسقط جدار برلين، وبزغت شمس "النظام العالمي الجديد" الذي أعلنه الرئيس الاميركي الأسبق جورج بوش الأب، ومن ثم انتهى- ولو إلى حين- دور لبنان كمسرح لتلك السلسلة من الحروب المحلية والصراعات الدولية على الشرق الأوسط. واقتناعاً من اللبنانيين بهذا الأمر، لم يكن في حسبان أحد أن يعود لبنان مسرحاً لحرب جديدة، خاصة بعد أن حقق رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري معجزة إعادة إعمار وبناء ما هدمته "حروب الآخرين على أرض لبنان". لقد جرى تصوير الحرب الجديدة كحرب نتجت عن استعصاء سوريا وإيران على محاولات التدجين الأميركية. وصورت أيضاً كمدخل لصناعة "شرق أوسط جديد" يقوم على قاعدة الدويلات العنصرية والطائفية والمذهبية، ويكون لبنان مدخلاً له، بضرب وحدته الوطنية على غرار ما حدث ويحدث في العراق. من هنا فإن حسابات ما بعد الحرب تتطلب الإجابة على الأسئلة التالية: أولاً: إلى متى يستطيع لبنان أن يتحمل منفرداً ثمن الدفاع عن النظام العربي القائم حالياً من خلال إفشال محاولات استخدامه (استخدام لبنان) إسرائيلياً وأميركياً كمدخل لضرب هذا النظام أو ما تبقى منه؟ ثانياً: هل يستطيع لبنان وحده أن يصون النظام العربي كله بينما تتهاوى الوحدة الوطنية في دول كالعراق والسودان، وفي الوقت الذي تتآمر قوى خارجية على الوحدة الوطنية في الدول العربية الأخرى، حيث توجد جماعات عنصرية... أو دينية أو مذهبية أو حتى قبلية مختلفة؟ ثالثاً: متى تدرك الدول العربية أن دفاعها عن نفسها يبدأ بالدفاع عن دول مثل لبنان، طالما استخدمت مدخلاً للوصول إلى قلب الدفاعات الوطنية العربية؟ رابعاً: كيف يمكن فك الارتباط بين حق لبنان في أن يحافظ على نفسه كدولة ذات سيادة، كسائر الدول العربية الأخرى، وبين قبوله الآن بموجب القرار 1701 التوقف عن السماح باستخدامه جبهة وحيدة مفتوحة في وجه إسرائيل؟ لقد سبق أن استخدمت الفصائل الفلسطينية هذه الجبهة على مدى سنوات، حتى أطلق على منطقة العرقوب المتاخمة للحدود مع إسرائيل اسم "فتح لاند" (أي أرض فتح)، وكانت النتيجة أن لبنان تعرّض للاجتياح الإسرائيلي مرتين، في عام 1978، وفي عام 1982، وإلى ما ترتب عليهما من احتلال مباشر لحوالي ثلث مساحته مدة 22 عاماً. واستخدم السوريون لبنان كجبهة على مدى عقود بصورة غير مباشرة في الجنوب وبصورة مباشرة في سهل البقاع، منذ دخولهم عسكرياً إلى لبنان عام 1976 وحتى انسحابهم منه عام 2005 بموجب قرار مجلس الأمن الدولي 1559. خامساً: هل يدرك العرب أنه بإقفال الجبهة اللبنانية كجبهة مقاومة ضد إسرائيل، تكون الجبهات كلها قد اقفلت بعد اتفاقات السلام الإسرائيلية مع كل من مصر والأردن؟ وهل يدركون أن الفلسطينيين وحدهم سوف يجدون أنفسهم مُستَفرَدين في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية؟ وهل يمكن أن يتصوروا انعكاسات ذلك على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية؟ صحيح أن إسرائيل خرجت من الحرب على لبنان مثخنة الجراح معنوياً ومادياً. وصحيح أن هذه الحرب قضت على أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر"، كما قضت على أسطورة المجتمع الإسرائيلي الذي لا يمكن هزّ ثقته بدولته وبجيشه وبمستقبل وجوده في هذا الموقع من الوطن العربي. لكن الصحيح أيضاً أن هذه الحرب كرّست مرة أخرى المعادلة التي تقول إن ما يصيب إسرائيل يصيب الولايات المتحدة أيضاً، وإن واشنطن وتل أبيب وجهان لحالة واحدة، فالحرب على إسرائيل في الحسابات الأميركية هي حرب على الولايات المتحدة نفسها. وإذا كانت هذه المعادلة قد برزت أثناء وبعد حرب رمضان 1973، فقد أكدت استمرارها من خلال الجهود التي بذلتها واشنطن لتطويل الحرب الأخيرة على لبنان لتتمكن القوات الإسرائيلية من تحقيق أهدافها العسكرية والسياسية معاً. فكانت النتيجة أن التطويل أدى الى تدمير لبنان من دون أن تحقق إسرائيل هذه الأهداف. ولعل العكس هو الذي حدث ميدانياً. ذلك أن تطويل الحرب وما رافقه من مجازر جماعية ضد المدنيين اللبنانيين، عمق الهوة- العميقة أصلاً- بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي، بينما تعمل إدارة الرئيس بوش الابن على ترقيع هذه الهوة بمبادرات هشة تفتقر إلى الموضوعية، وحتى إلى الصدقية. وقد جاءت التغطية الأميركية لجرائم الحرب الإسرائيلية لتوجه إلى هذه المبادرات ضربة قاضية. كذلك فإن تطويل الحرب وفر الفرصة لتوصيل وقائعها الوحشية إعلامياً إلى أطراف العالم الإسلامي، الأمر الذي أثار ردود فعل شعبية ناقمة قطعت الطريق أمام المحاولات التي كانت تقوم بها بعض الدول الإسلامية (باكستان مثلاً)، وبضغط أميركي مباشر، لفتح جسور دبلوماسية من نوع ما مع إسرائيل. لقد تعود الرأي العام العربي والإسلامي على تلقي أنباء المآسي والمجازر، وحتى الهزائم التي "تكسر النصال على النصال"! وربما بسبب ذلك فإن ردود الفعل على ما تعرّض له لبنان كانت محدودةً وحتى خجولة ودون المستوى. وكان يمكن لها أن تكون أدنى من ذلك بكثير لولا عامل التطويل الذي فرضه الأميركيون بأسلوب لا إنساني، استغلته إسرائيل بشراسة الوحش الجريح. وبالنتيجة، فإن الولايات المتحدة خسرت جولة أخرى في معركة تحسين صورتها في العالم الإسلامي، وإن إسرائيل أثبتت مرة جديدة أنها لا يمكن أن تكون إلا إسرائيل، بمعنى أنها مجرد آلة للقتل الجماعي الرافض للآخر وليس كياناً منفتحاً على التعايش بسلام. قبل الحرب الإسرائيلية على لبنان، كان الموقف المبدئي يقول إن لبنان هو آخر دولة عربية يمكن أن توقّع معاهدة سلام مع إسرائيل. أما الآن، وبعد هذه الحرب الوحشية المدمرة التي عكست مقداراً من الحقد والكراهية لم تعرفه أي حرب أخرى، فإن اللبنانيين يتساءلون بيأس: أي سلام يمكن أن يقوم مع آلة القتل والتدمير التي خلّفت في لبنان آلاف الأرامل والأيتام والثكالى... والخسائر المادية والاقتصادية التي تصل قيمتها عشرات المليارات؟ ومتى كانت زراعة الحقد والكراهية تنبت تعايشاً وسلاماً؟