غامض بقدر ما هو مثير للقلق هذا الدعم الكامل الذي تقدمه الولايات المتحدة الأميركية لإسرائيل في حربها الغاشمة على لبنان. فكيف لنا أن نفسر هذا السلوك؟ لا شك أن للعاطفة دوراً فيه, بقدر ما للوبي الصهيوني ذي الرؤوس السبع -كما حيوان الهيدرا الخرافي- من قدرة على إقناع الرأي العام في واشنطن بفكرة تطابق المصالح الأميركية- الإسرائيلية, وبكونها تواجه خطراً واحداً متمثلاً في "الإرهاب الإسلامي". ولكن لا مناص من ذكر الدور الخبيث الذي يؤديه "المحافظون الجدد" داخل وخارج إدارة بوش في رسم وتشكيل السياسات الخارجية الأميركية, في وجهة موالاة إسرائيل والانحياز المطلق إلى جانبها. بيد أن هذا كله ليس كافياً لتفسير هذا التحالف غير المشروط من قبل واشنطن مع تل أبيب, ولرفض الأولى وعدم إصغائها لكل المطالب والنداءات الدولية بالوقف الفوري لإطلاق النيران في لبنان, بل ولتفسير إسراع واشنطن بإرسال المزيد من أسلحتها لإسرائيل, ثم لفهم هذا العزم الدبلوماسي الذي تبديه وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس, على ضمان الخروج من محادثاتها الشرق أوسطية هذه بنصر مؤزر لصالح إسرائيل, مقابل إلحاق هزيمة ماحقة بأعدائها وتجريدهم من أسلحتهم, لا سيما عدوها اللدود "حزب الله". ولك أن تحصي الخسائر المباشرة لهذه الحرب. فقد جرى تدمير البنية التحتية التي يعتمد عليها المجتمع المدني اللبناني بكاملها. وفي الوقت ذاته لقي أكثر من 600 لبناني مصرعهم جراء القصف والغارات الوحشية, بينما شرد ما يزيد على المليون منهم. وخلقت هذه الغارات في مجموعها وضعاً ليس أقل من كونه كارثة إنسانية وطنية عامة. أما في الجانب الإسرائيلي فقد لقي مصرعهم نحو 40 مواطناً, بينما أصيب عدد أكبر من ذلك بكثير, نتيجة لصواريخ "حزب الله" التي تستهدف المدن والمواقع الحدودية في شمال إسرائيل. وفي الوقت ذاته لحق بحياة المواطنين الإسرائيليين وبالاقتصاد الوطني- لا سيما في الشمال- دمار هائل. ثم عليك أن تنظر إلى حجم التكلفة غير المباشرة للحرب؛ فقد بلغ العداء لإسرائيل في المنطقة وخارجها الآن مبلغاً يثير غيوماً كثيفة من الشك, حول القبول البعيد المدى لوجودها بهذه المنطقة. وبالقدر ذاته تهشمت صورة الولايات المتحدة الأميركية وسمعتها في العالمين العربي الإسلامي, وبلغت حداً من الحضيض يهدد بعواقب وخيمة على مصالحها الحيوية وأمن مواطنيها. ومن جراء هذه الحرب وتداعيتها, فقد استشاطت كل من المملكة العربية السعودية ومصر والأردن ودول الخليج العربي, غضباً إزاء حرب أثارت ما أثارت لدى هذه الدول من حرج أمام الرأي العام لشعوبها, وأرغمتها على إعادة التفكير والنظر في سياسات التعويل على واشنطن, خاصة وأن الدول المذكورة جميعها تعد حليفاً تقليدياً للولايات المتحدة في المنطقة. وكان طبيعياً أن تتساءل هذه الدول عن جدوى الصداقة مع أميركا, طالما أن حماية المصالح الإسرائيلية هي التي تعلو على أي مصلحة واعتبار آخر؟ وبالنظر إلى هذه التكلفة الفادحة للحرب الدائرة الآن, فإنه لمن الأهمية أن نتساءل عن الذي يدفعها؟ في اعتقادي الشخصي أن تفسير دوافع هذه الحرب إنما يكمن في الصدمات الموجعة الكبيرة التي تلقتها كل من واشنطن وتل أبيب خلال الخمس أو الست سنوات الماضية, وهي صدمات قوضت استراتيجية تفوقهما الاستراتيجي, وواجهت كلتيهما بالحقيقة المؤلمة الداعية إلى إعادة النظر في مجمل مبدأ الاستراتيجية الذي بنيت عليه سياساتهما. ولعل أفضل فهم وتفسير لهذه الحرب الإسرائيلية-الأميركية على لبنان, هو توق الدولتين الحليفتين وتشبثهما بأي أمل يؤدي إلى تغيير الاتجاه العام السلبي العام السائد ضدهما. وعند النظر إلى هذه الصدمات بعين أميركية, فإنها تشمل ضمن ما تشمله, هجمات 11/9 عليها في عقر دارها, وما أسفرت عنه تلك الهجمات من مذبحة جماعية لمواطنيها. وهناك أيضاً عجز الولايات المتحدة عن سحق التمرد العراقي, الذي بدا وكأنه هزيمة استراتيجية لها يوماً إثر الآخر. أما بالعين الإسرائيلية, فليس أقل هذه الصدمات وأشدها إيلاماً من انسحابها المهين أمام ضراوة "حزب الله" من جنوبي لبنان عام 2000, متبوعة بالعمليات الانتحارية التي نفذتها ضدها حركة "حماس" خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية, وهي الهجمات التي راح ضحيتها نحواً من 1000 مواطن إسرائيلي, مقابل 4000 فلسطيني راحوا ضحية العمليات الانتقامية الإسرائيلية. وإلى هذه الصدمات لا بد من إضافة الصعوبة البادية التي تواجهها إسرائيل في سحق "حزب الله", على رغم تفوقها العسكري الكبير عليه. نخلص من كل هذه التطورات والصدمات إلى استنتاج رئيسي مفاده أن الحروب غير المتكافئة التي يخوضها لاعبون وقوى غير حكومية, قد تمكنت من تمريغ القوتين الأميركية والإسرائيلية في الوحل, وأصابتهما في مقتل بتجريدهما من قدراتهما الرادعة. وبالنتيجة فقد بدا تفوقهما الاستراتيجي ضرباً من الأساطير والوهم ليس إلا. وفي اتجاه هذه الخلخلة وتبديد الوهم والأساطير, ها هي طهران تمضي غير آبهة بالتهديدات الأميركية والإسرائيلية في تطوير برامجها النووية. وفيما لو اتخذت هذه البرامج منحى عسكرياً, فإنها ستنزع عن إسرائيل احتكارها الإقليمي التقليدي للأسلحة النووية. وفي الوقت نفسه تعهدت طهران بتقديم الدعم العسكري لسوريا, فيما لو تعرضت لأي هجوم عليها من قبل إسرائيل أو الولايات المتحدة الأميركية. وعلى رغم من أن ظاهر التحرش الأميركي-الإسرائيلي بسوريا هو دعمها لـ"حزب الله", فإن باطنه وحقيقته هو رفض دمشق الانكسار أمام الإرادة والصلف الأميركيين. وبعد ألم يحن لإسرائيل وحليفتها العظمى أن تعيدا التفكير والنظر في سياساتهما؟ وما خطأ التفكير في التكافؤ الاستراتيجي بدلاً من أحادية التفوق الاستراتيجي؟ ولماذا كل هذا التشبث من قبل الدولتين الحليفتين بمبدأ التفوق الاستراتيجي؟ أليس من الأفضل لهما التفكير في توازن القوى بين إسرائيل وجاراتها, بقدر ما هو مفيد للولايات المتحدة أن تفكر في استراتيجية تقوم على توازن القوى بينها والقوى المتنامية مثل الصين وروسيا والبرازيل والهند, دعك عن الاتحاد الأوروبي؟ وبالمنطق ذاته نتساءل: أليس من سبيل للحفاظ على الأمن الإسرائيلي إلا بهذا الدمار والخسائر الفادحة التي تلحقها تل أبيب بجيرانها الإقليميين؟ ثم أليس الفلسطينيون واللبنانيون بحاجة للحماية من إسرائيل, بقدر ما تحتاج هذه الأخيرة لحماية نفسها من هجمات "حماس" و"حزب الله"؟ وكما نعلم فقد دلت شواهد التاريخ على أن في توازن القوى حفظاً للسلام, بينما تندلع شرارة كل النزاعات والحروب, من انعدام التوازن دائماً.