أفهم تماماً لماذا يريد أخواننا اللبنانيون وقفاً فورياً للعدوان الاسرائيلي ضد لبنان. وأبعد ما يدور بذهني أن أزايد عليهم. فهذه لم تكن حرباً، وانما حملة تدمير منظمة ومنهجية وعاتية للحضارة اللبنانية, والتدمير الذي وقع لا يقارن حتى بالاجتياحات المغولية والتترية للمنطقة في العصور الوسطى, ولا تقارن سوى بالتدمير المروع للعراق عبر حربين غير مسبوقتين في التاريخ عامي 1991, و2003. أفهم هذا تماماً. وأؤكد من جديد أنه لا مجال للمزايدة على آلام وعلى محنة لبنان والتضحيات الغالية لأبنائه. غير أن من المفيد أن نفهم الموقف السليم من قضية الحرب: بداية ونهاية في سياق حقيقتين أساسيتين. الحقيقة الأولى أن اسرائيل لن توقف الحرب لاعتبارات انسانية, أو حتى عندما تحقق أهدافها السياسية. فهي لم تكن تريد خوض حرب بالمعنى المفهوم للكلمة لدى العسكريين المحترمين, وانما استهدفت أصلاً عقاب لبنان كدولة ومجتمع أو كحضارة بكل عناصرها من أجل تحقيق أهداف سياسية أخطأت الطريق إليها. وهي قصفت معظم أن لم يكن كل الأهداف التي تتفق مع هندسة التخريب هذه. والعكس تماماً هو الصحيح, بمعنى أن اسرائيل ستوقف الحرب عندما تفشل في تحقيق أهدافها, وتبدأ تناقضاتها تظهر في الواقع الإسرائيلي, ومن يريد وقف هذه الحرب عليه أن يعجل من إدراك إسرائيل والولايات المتحدة أنهما فشلتا في تحقيق أهدافهما أو أن تحقيق هذه الأهداف سوف يجبرهما على دفع ثمن أو تكلفة أكبر مما يتحملاه حالياً. وعلى سبيل المثال، فإن فشل الرهان على الانقسامات في الساحة اللبنانية يعجل من وينضج ظروف وقف العدوان. ويعد الأداء العسكري لـ"حزب الله" وبقية قوى المقاومة أهم العوامل وراء دفع اسرائيل لوقف الحرب. أما الحقيقة الثانية، فهي أن الزمن لا يعمل لصالح اسرائيل وذلك لأسباب كثيرة. فإن قامت إسرائيل باجتياح بري كبير وثقيل سوف تبدأ عملية استنزاف كبرى لقواتها في الجنوب, ولن يمكن لإسرائيل أن تستخدم هيمنتها على الأجواء اللبنانية بصورة فعالة. وإن لم تقم بهذا الاجتياح سوف يبدأ التحالف الغربي في الانكسار لأنه سيصبح من الواضح أن اسرائيل لا تقوم بعملية عسكرية لضرب "حزب الله"، وانما بعدوان مستدام ومدمر للحضارة اللبنانية وللمدنيين في لبنان, كما أن الموقف الرسمي لعدد من الدول العربية سوف ينقلب ضد اسرائيل وربما أميركا, بتأثير التأييد الشعبي العربي لـ"حزب الله". ولو لجأت أميركا وإسرائيل لتوسيع نطاق الحرب, فهي ستوسع أيضاً المجال الجغرافى للمقاومة وستضطر لمعاناة حرب استنزاف على عدة جبهات عربية, وهو ما قد يقود إلى تثوير العالم العربي. والأهم أن الكراهية لاسرائيل والتي باتت ملحوظة للغاية حتى في العالم الغربي سوف تتعمق بدرجة كبيرة, وهو ما ستكون له انعكاسات عميقة على مستقبل إسرائيل والمسألة اليهودية بصورة عامة. فإذا كانت الحرب قد بدأت واستمرت ضد المدنية اللبنانية والفلسطينية بالطبع, وتنتهي عندما تفشل في تحقيق أهدافها, فإن ملاحقة أميركا وإسرائيل بطلب الوقف الفوري للحرب يصبح موقفاً بالياً ويفتقر للعدالة, ويمنح اسرائيل ميزة ابتزاز لبنان ويعفيها عمليا من المحاسبة على جرائمها ضد الانسانية وجرائم الحرب التي ارتكبتها في لبنان فضلاً عن ميزة فرض شروط جائرة وغير واقعية. والمنظور الأفضل لوقف الحرب يجب لهذه الأسباب أن يختلف تماماً. فأولاً يجب أن يبرز طلب تعويض لبنان عما سببته الآلة العسكرية الإسرائيلية من دمار للمنشآت والمرافق المدنية, وأن يصبح مطلباً عربياً ودولياً بتأكيده وترديده في كل مكان وعلى كافة المستويات, وحتى لو لم يكن هذا الطلب واقعياً، فهو لن يسقط بالتقادم, وسوف يتعين على إسرائيل أن تفهم أنه كلما استمرت في تدمير المرافق المدنية للبنان كلما تعاظم مقدار التعويض الذي يجب أن تدفعه لقاء جرائمها ضد لبنان وضد الانسانية, وقد يساعد ذلك على الاسراع بوقف العدوان وجرائم الحرب. وثانياً: يجب اسقاط فكرة تجريد "حزب الله" من سلاحه. فقد كان لهذا الطلب مشروعية معينة في السياق السابق على العدوان الاسرائيلي الراهن. أما بعد هذا العدوان، فإن سلاح "حزب الله" يصبح ليس فقط مشروعاً، وانما ضرورياً أيضا لحماية لبنان واللبنانيين, في الوقت الذى فشلت فيه القوات الدولية في حمايته, بل وفشلت في حماية ذاتها من عدوان إسرائيل. وعلى أي حال، فإن طلب تجريد "حزب الله" من السلاح ليس واقعياً. فلندع العوامل المعنوية مؤقتاً, لأن العوامل العقلانية كافية تماماً لإبعاد هذه الفكرة في الأفق المنظور. فـ"حزب الله" لم يقبل نزع سلاحه طائعاً قبل الحرب عندما كان هذا السلاح أقل أهمية, وإسرائيل لم تتمكن برغم قوتها العسكرية الهائلة من تدمير القوة القتالية الأساسية لـ"حزب الله" بالحرب الاجرامية التي تشنها في الوقت الراهن, بل لا نستبعد أن تكون اسرائيل هي التي طلبت من الولايات المتحدة إرسال كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية للمنطقة من أجل بحث ايجاد مخرج لها على وجه السرعة, بسبب التكلفة العالية لحربها في لبنان, وبفضل مقاومة "حزب الله" وسلاح هذا الحزب. وبدون ايجاد مخرج كريم يجب على الحزب أن يستعد لخوض معارك تفرض عليه في المستقبل من جانب إسرائيل. أما البديل العربي، فيجب أن يكون على العكس تماماً وهو تعميق ثقافة المقاومة من ناحية, وخوض المعركة السياسية على مستوى عالمي من ناحية أخرى. من المهم في هذا الاطار أن تتم دعوة المجتمع المدني العالمي لمشاهدة ما حدث للبنان, حتى ننجح في دعوة الشعوب كافة للتعرف على إسرائيل الحقيقية عن كثب ومن خلال نمط العدوان الذي تشنه ضد مختلف الشعوب العربية, وضد لبنان وفلسطين. إن خوض معركة سياسية على المستوى الشعبي العالمي قد لا تكون مسؤولية "حزب الله", بل هي مسؤولية المجتمع المدني والسياسي العربي, ولكن يجب على "حزب الله" أن ينتهز فرصة التعاطف العربي والرفض الشعبي لإسرائيل في العالم في الوقت الراهن لطرح تجاوز جذري للطائفية وفتح الطريق أمام بناء جبهة عربية ودولية للمقاومة المشروعة للحروب والظلم, ومن أجل العدالة الدولية والسلام الانساني الحق. وثالثاً: يترتب على ذلك إسقاط فكرة القوات الدولية بغض النظر عن مصدرها والعلم الذي ترفعه. وبالطبع، فإن المقصود الآن هو ايجاد قوة قادرة على الردع وعلى القتال, وهي فكرة غير واقعية طالما بقيت المنطقة مشتعلة بسبب استمرار نظام الاحتلال الإسرائيلي بحروبه الدورية, والخلل في موازين القوى الاستراتيجية وغياب حل سلمي وعادل وشامل. ولن يكون من الممكن لأية قوة دولية أن تحقق هذا الهدف بالغصب والعنف, كما أنه لا توجد دولة كبرى أو صغرى راغبة في تعريض قواتها لاستنزاف كبير لمجرد تحقيق مصالح إسرائيلية غيرعادلة, ربما باستثناء الولايات المتحدة التي تعاني من انكشاف واضح وفشل شامل في العراق, وسوف يكون إرسال قوة أميركية لحراسة إسرائيل من الجنوب مناسبة لاستنزافها بصورة أشد. وبإيجاز، فإن الفكرة غير واقعية فضلاً عن أنها ستكون بالقطع مرفوضة من "حزب الله", ويجب أن تكون مرفوضة عربياً. أما البديل العربى, فهو أطروحة البدء في حل عادل وشامل ودائم في المنطقة ككل بما فيها لبنان بالطبع, وهذا هو ما طرحه نبيه بري, ولكن العجز العربي جعله خطاباً محاصراً ولم يمكنه من الطيران في أفق السياسة الدولية. إن بعض الجهد الرسمي العربي سيكون مفيداً بالقطع في هذا السياق, وفي غيابه يجب أن يضطلع الشباب العرب بهذه المهمة.