شهدت الهند مؤخراً حدثاً إرهابياً كبيراً تمثل في سلسلة من التفجيرات المتزامنة التي استهدفت خطوط السكك الحديدية في مدينة مومباي في ساعات الذروة. هذا العمل الإرهابي الجبان الذي أوقع نحو مائتي قتيل وأكثر من 700 إصابة، كان من حيث الشكل مشابهاً لما حدث في مدريد ولندن في عامي 2004 و2005 على التوالي، لكنه من حيث الهدف اقترب من هجمات 11 سبتمبر 2001 على نيويورك. فكما حاول إرهابيو تنظيم "القاعدة" استهداف الاقتصاد الأميركي بضرب المدينة التي تجسد رئته وقلعة أنشطته، حاول زملاؤهم في الحادي عشر من يوليو الجاري ضرب الاقتصاد الهندي عن طريق استهداف مومباي، بوابة الهند الاقتصادية ومركز كبريات مؤسسات المال والأعمال الوطنية والاجنبية. ومثلما حدث في نيويورك، حيث لم ينجح الإرهابيون في تجميد أو إعاقة دور هذه المدينة العملاقة، لملمت مومباي جراحها سريعاً، وعادت إلى نشاطها المعتاد، على نحو ما حدث في العام 1993 حينما شهد حي المال والأعمال فيها سلسلة انفجارات إرهابية مماثلة، خلفت أكثر من 250 قتيلاً ونحو ألف مصاب. غير أن ما استرعى الانتباه هذه المرة هو ذلك التضامن والتكاتف المدهش ما بين سكان المدينة الهندوس والمسلمين في مواجهة العمل الإرهابي وتداعياته، الأمر الذي بعث برسالة إلى جماعات الإرهاب والعنف مفادها أن الهند عصية على أحلامهم الحمقاء، وأنهم إذا كانوا قد راهنوا على الاحتقانات التي برزت في العقد الأخير ما بين مسلمي وهندوس المدينة لتمرير أجندتهم، فإن حساباتهم خاطئة. بعيداً عن الجهة التي نفذت هذا العمل الإرهابي أو وقفت وراءه، وسواء أكانت منظمات إرهابية كشميرية كجماعة "لاكشار طيبة"، أو جماعات أصولية باكستانية مرتبطة بـ"القاعدة" مثل "جيش محمد" المحظور، أو عصابات "مافيوية" كعصابة الهندي الفار المقيم في باكستان "فاروق إبراهيم"، أو الحركة الإسلامية لطلبة الهند المحظورة منذ عام 2001 والمتهمة من قبل نيودلهي بمقاومة النظام الديمقراطي العلماني، والعمل من أجل تأسيس كيان إسلامي في الهند، فإن ما يعنينا هنا الجدل الذي أحدثته تفجيرات مومباي في أوساط النخب السياسية والأكاديمية والصحفية والحقوقية. هذا الجدل لم يقتصر على مدى كفاءة وجاهزية أجهزة الأمن والاستخبارات الهندية في التنبؤ بمثل هذه الأعمال الإرهابية والكشف عنها وإحباطها قبل وقوعها، وإنما تجاوز ذلك إلى قوانين مكافحة الإرهاب. فالمعارضة ممثلة في حزب "بهاراتيا جاناتا" وحلفائه من القوميين والأحزاب الإقليمية الصغيرة أنحت باللائمة فيما حدث على الحكومة الائتلافية الحالية بقيادة حزب المؤتمر الهندي لإقدامها في عام 2004 ، أي بعيد فوزها في انتخابات ذلك العام، على إلغاء "قانون منع الإرهاب" المعروف اختصاراً باسم "بوتو POTO". مقابل هذا ادعت تنظيمات وشخصيات أخرى بأن القانون المذكور وأشباهه من القوانين الصارمة هي التي شجعت على جنوح البعض نحو أعمال الإرهاب والتطرف انتقاماً لما تعرض له على يد الأجهزة الأمنية. يشار إلى أن قانون "بوتو" تبنته الحكومة السابقة بقيادة "بهاراتيا جاناتا" في مارس 2002 على خلفية أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة وحادثة الهجوم الإرهابي ضد مبنى البرلمان المركزي في نيودلهي في ديسمبر 2001 ، ودفعت به إلى البرلمان الذي رفضت غرفته الأولى تمريره. وحينما التأمت غرفتا البرلمان لمناقشته كما ينص الدستور، حصل القانون المذكور على 425 صوتاً مقابل 296 صوتاً من بعد مناظرات عاصفة امتدت لأكثر من عشر ساعات واتهامات متبادلة بين رئيس الحكومة وزعيمة المعارضة وقتذاك "أتال بيهاري فاجبايي" و"سونيا غاندي". وقتها عد هذا انتصاراً لوجهة النظر القائلة بان أمن البلاد يجب أن تكون له الأولوية على ما عداه من الاعتبارات مثل حماية حقوق الإنسان وحرياته، ضد وجهة النظر المتخوفة من احتمالات استخدام الحكومة وأجهزتها لمواد القانون المذكور في الإيقاع بخصومها وخنق حرياتهم المنصوص عليها في الدستور، خاصة وأن قانون "بوتو" احتوى على مواد مثل حق الأجهزة الأمنية في إيقاف المشتبه بهم بارتكاب الإرهاب أو دعمه بالأموال أو توفير الملاجئ الآمنة لرموزه أو التستر على معلومات حول الأنشطة الإرهابية، وذلك لمدد تصل إلى ستة أشهر دون محاكمة، مع مصادرة ممتلكاتهم وسلبهم حق المطالبة بتعويضات في المستقبل وإعفاء رجال الأمن من أية مسؤوليات قانونية. إلى ذلك منح القانون لأجهزة الأمن حق مراقبة وسائل الاتصالات واستخدامها كأدلة جنائية، وحدد عقوبة الإرهاب بمدد تتراوح ما بين السجن خمس سنوات والإعدام بحسب مدى الضرر الملحق بأمن البلد وسلامته ونظامه. وحينما وصل "حزب المؤتمر" إلى السلطة مع حلفائه وبدعم خارجي من أحزاب "اليسار"، تم التخلص من قانون "بوتو" لصالح العودة إلى قانون قديم صدر في1967 هو "قانون منع الأنشطة غير القانونية" المعروف اختصاراً باسم "يوابا UAPA"، مع إحداث بعض الإضافات والتغييرات فيه ليكون ملائماً للمستجدات الأمنية. ورغم أن القانون الجديد لم يمس البنود الجوهرية الواردة في قانون "بوتو"، فإنه نص على ضرورة تمثيل المشتبه به بالإرهاب أمام القاضي خلال 24 ساعة من توقيفه، واعتبر أن اعترافاته لرجال الأمن لا تصلح دليلاً على إدانته، كما اشترط توفر أدلة قوية وواضحة لتقييد حريته. بحسب الكثيرين، جاء إلغاء قانون "بوتو" استجابة للضغوط المتواصلة من أحزاب اليسار (63 مقعداً في البرلمان الحالي) التي تخوفت من احتمال وقوعها ضحية لتطبيقاته، لا سيما وأنه طبق ضد منتسبي بعض الحركات الثورية الناشطة في أجزاء من الهند مثل الجماعات الماوية المسلحة. لكن هذا لا يلغي حقيقة أن ائتلاف الأحزاب الحاكمة كان راغباً في التخلص من قانون "بوتو" مدفوعا بمصالح انتخابية ضيقة. فموقف "حزب المؤتمر" له علاقة بحرصه على أصوات الناخب المسلم، خاصة وان المسلمين تضرروا من تطبيق القانون المذكور أثناء حوادث ولاية "كوجرات" الدموية عام 2002. وبالمثل فإن حزب "ساماجوادي" الحاكم في ولاية "أوتار براديش" عارض بشدة أي قانون صارم ضد الإرهاب، بل وتعامل مع أنشطة الحركة الإسلامية لطلبة الهند بقفازات ناعمة، خوفا من خسارته لأصوات المسلمين. ويمكن قول الشيء نفسه عن بعض الأحزاب السياسية في ولاية "تاميل نادو" الجنوبية من تلك التي عارضت قوانين مكافحة الإرهاب خوفاً من استهدافها لمناصري حركة "نمور التاميل" الإرهابية السريلانكية، وبالتالي فقدان أصوات انتخابية معتبرة. والحال أن الهند اليوم حائرة في كيفية التعامل مع الإرهاب المهدد لنسيجها الاجتماعي ونظامها الديمقراطي وعلمانيتها دون المساس بما ورد في دستورها من مواد حول حقوق الإنسان وحرياته. وهذا ما لا يتناسب والظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم والتحديات الكبيرة الناجمة عن تطوير الإرهابيين لأساليبهم وأدواتهم وخططهم، الأمر الذي أوجد تياراً داخلياً يطالب بقوانين وقتية متشددة ضد الإرهاب، وصلاحيات استثنائية واضحة لأجهزة الأمن، ومنع الساسة من التأثير على عمل الأخيرة، وتجاوز البكاء على حقوق الإنسان فيما حقوق الوطن في البقاء والاستمرارية والتقدم مهددة.