تفاءل الكثيرون بالضغوط الشديدة التي تعرضت لها الإدارة الأميركية جراء العدوان الإسرائيلي على لبنان، وكانوا يأملون أن تنجح كوندوليزا رايس خلال زيارتها للمنطقة في الضغط على الحكومة الإسرائيلية بوقف إطلاق النار في لبنان، وأن تعلن ذلك في مؤتمر روما. ولكن الحقيقة أن مؤتمر روما فشل فشلاً ذريعاً في وقف الهجمات الإسرائيلية ضد المدنيين اللبنانيين. ولقد نجح الإعلام المجيش للجانب الإسرائيلي في الولايات المتحدة، في إقناع الرأي العام الأميركي بأن الحرب الحالية ليست ضد لبنان، بل هي ضد "حزب الله"، وهم يعددون ما قام به الحزب من عمليات ضد أهداف أميركية منذ عام 1982م وحتى الوقت الحاضر، ولذلك يسميها الإعلام الأميركي بحرب "حزب الله" وإسرائيل! ولقد تعجبت بشكل كبير من التصويت الساحق الذي حاز على أغلبية أصوات أعضاء الكونجرس بدعم إسرائيل في هذه الحرب، ولم يصوت ضد هذا القرار (غير الملزم) إلا سبعة أعضاء استنكروا الاعتداءات الوحشية بحق المدنيين اللبنانيين. وكان هناك بعض رجال الكونجرس الذين صوتوا مع هذا القرار، وهم من أصل لبناني، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم بأن الاعتداءات الإسرائيلية العسكرية غير مبررة، وأن الولايات المتحدة كان يجب عليها الطلب فوراً من الطرفين المتحاربين أن يوقفا هذه الحرب، إلا أنها شاءت أن تركب القطار الإسرائيلي، وتدعم قرارات تل أبيب بكل ما أوتيت من قوة، آملة أن تحصل إسرائيل على فسحة زمنية كافية تحاول من خلالها احتلال أجزاء من جنوب لبنان، كشريط عازل تحاول من خلاله التفاوض مع "حزب الله" ومع الحكومة اللبنانية، بقصد الضغط على تلك الحكومة من أجل نزع سلاح الحزب. ويبدو أن الأطراف الفاعلة في الأزمة الحالية قد اتفقت فعلاً على خريطة طريق معينة، تقضي بتطبيق اتفاق الطائف لعام 1989م، والقرار 1559 والخاص بنزع أسلحة جميع الميليشيات المسلحة في لبنان بما في ذلك "حزب الله"، وإحلال قوة عسكرية تابعة لحلف "الناتو" بقيادة عسكريين أتراك في جنوب لبنان، وبمشاركة عدد من الدول الأوروبية في هذه القوة، لمدة 90 يوماً، وذلك حتى تتمكن الحكومة اللبنانية من تنظيم جيشها وإرساله كي يرابط على الحدود مع إسرائيل. والإشكالية الكبرى بين الأطراف المتفاوضة، كما ظهر ذلك في اجتماع روما الفاشل، هي عدم توافق الطرف الأميركي مع الأطراف العربية والأوروبية، في التوصل لوقف إطلاق النار كمرحلة مبدئية تسبق إرسال قوات دولية إلى الجنوب. وهناك أيضاً نقطة شائكة أخرى، فالأمم المتحدة والدول العربية ترغب في أن تكون هذه القوة تحت مظلة الأمم المتحدة، حتى يشارك فيها جنود من دول أوروبية، طالما كانوا يلبسون القبّعات الزرقاء. بينما ترغب الولايات المتحدة في أن يكون هؤلاء الجنود تابعين بشكل مباشر لقيادة حلف "الناتو" في أوروبا، وأن يكون تسليحهم أكبر بكثير من تسليح قوة سلام خفيفة في المنطقة العازلة بين إسرائيل ولبنان. ويستغرب المرء من موقف الإدارة الأميركية الحالي من عدم إعلان وقف سريع لإطلاق النار، فالإدارة الحالية وللأسف، أصبحت تحت النفوذ الإسرائيلي المتنامي في الولايات المتحدة، ولم تعد قادرة على أن تتصرف كقوة عظمى، وقد كسر هذا التصرف تقليداً تاريخياً طويلاً في الولايات المتحدة كان يسعى إلى وقف أي عنف يحدث في أي مكان من العالم. ولقد شهدت الحروب العربية- الإسرائيلية السابقة، سعي وزراء الخارجية الأميركيين لإعلان وقف لإطلاق النار بين القوات المتحاربة. وقد انتقدت بعض الدوائر السياسية في الولايات المتحدة مثل هذا التصرف من قبل الإدارة، فكتب يوجين روبنسون مقالاً في "الواشنطن بوست" في 25 يوليو الجاري، ينتفقد فيه سياسة الرئيس جورج بوش، ويرى أنها تجعل من حسن نصر الله زعيماً وطنياً، ليس فقط للبنانيين ولكن لأعداد من الجماهير العربية أيضاً، كما أن مثل هذه السياسة، في نظره، قد تؤذي بشكل مباشر الجنود الأميركيين في العراق، بل قد تزيد من العمليات الإرهابية في المنطقة، وبهذا فهي تتناقض مع الأهداف الكبرى لحرب الإدارة الأميركية ضد الإرهاب. ومقابل هذه المقالات، تنشر الصحف الأميركية مقالات أخرى بأقلام كتّاب يهود أو متعاطفين مع المنطق والسياسة الإسرائيليين، وهم يرون في الحرب الحالية محاولة متجددة من قبل إسرائيل لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل انسحاب قواتها من جنوب لبنان، ويصورون هذه العمليات الحربية وكأنها عمليات حياة أو موت للدولة الصهيونية. ويشير كتّاب آخرون إلى أن الحرب الحالية هي حرب قانونية، وأن إسرائيل هي الضحية المعتدى عليها، وعلى اللبنانيين جميعاً، دون استثناء، تحمل تبعات أي عملية عسكرية تصدر من أراضيهم. أما بالنسبة للرأي العام الأميركي، فحسب مسح قامت به جريدة "يو أس إي تودي" وشركة "جالوب"، يوم الثلاثاء 25 يوليو، فقد رأى 50% من المستجوبين، أن العمليات الحربية الإسرائيلية ضد لبنان مشروعة، ولكن إسرائيل تعدّت الحدود المعقولة لمثل هذه العمليات، بينما ناصر 33% من المستجوبين مثل هذه الحرب دون تحفّظ، ورأى 7% أنها عمليات غير مشروعة، بينما امتنع 10% عن إبداء آرائهم تجاه هذه المسألة. ومع كل ذلك، فإن الصحف الكبرى مثل "الواشنطن بوست" و"نيويورك تايمز"، تنشر على صدر صفحاتها الرئيسية المآسي التي يتعرض لها اللبنانيون العزّل، وتشير إلى نقص الماء والغذاء والكهرباء في معظم المناطق اللبنانية، وهي تنظر إلى هذه المسألة من منظور إنساني بحت، وليس من منظور سياسي. والمحزن حقاً هنا، هو أن استمرار هذه الحرب لعدة شهور يمكن أن يغيّر من وجهة النظر الرسمية لهذه المسألة. والإشكالية هنا هي، أن لبنان بلد صغير لا يمكن أن يتحمل كل هذه المآسي والنيران التي يصبها عليها العدو الإسرائيلي. وكان الكثيرون يريدون إنجاح صفقة ما بين الأطراف الخارجية المؤثرة على الحرب الحالية، وأن تقوم الولايات المتحدة بالضغط على إسرائيل لوقف الحرب العسكرية الظالمة، مقابل أن تقوم الدول العربية المعتدلة في جذب سوريا إلى "معسكر الاعتدال العربي". وبرفض الإدارة الأميركية أي ضغط من جانبها على إسرائيل، فإن مثل هذه الصفقة الإقليمية التي قد تبعد سوريا عن تحالفها مع إيران، ربما لن تكون قادرة على أن ترى النور بعد. والشيء الإيجابي الوحيد الذي قد يقبع في أعماق المأساة الحاضرة، هو أن فجراً جديداً سوف ينبع من جديد، فمسألة الشرق الأوسط والصراع الإسرائيلي مع الفلسطينيين ومع بقية الدول العربية، لم تعد تحتمل التسويف والمماطلة. ويعترف بهذا الأميركيون والأوروبيون والعرب، وغيرهم ممن لهم دور على هذا المسرح المشتعل. لذلك فإن مسألة إطفاء الحرائق الحالية ستعني أيضاً اهتماماً دولياً جديداً، بإيجاد حلول جذرية لمأساة شعب يعيش تحت الاحتلال والحصار في فلسطين، وشعب آخر يعيش تحت مطرقة النيران الإسرائيلية في لبنان.