للأسماء سحرها. وللتعبيرات دلالاتها. لذلك تناقل الناس الأقوال المأثورة والأمثال العامية. وعلقوها على جدران المنازل والمحلات العامة، يستشهدون بها في حياتهم اليومية لتفسير الأحداث وإعطاء شرعية لها. وفي الحرب العربية الإسرائيلية السادسة، والتي تدور الآن بين فلسطين ولبنان من ناحية والكيان الصهيوني من ناحية أخرى، بدا سحر الكلمات ودلالة العبارات. فقد تم أسر جندي من جيش الاحتلال وقتل آخرين في عملية فدائية نوعية نفذتها المقاومة الفلسطينية وأُطلق عليها "تبديد الوهم". وساندت المقاومة اللبنانية، ممثلة في "حزب الله"، المقاومة الفلسطينية ولتخفيف الضغط العسكري الإسرائيلي عليها، فكانت بداية المواجهة المفتوحة في عملية "الوعد الصادق". وأطلق العدو الصهيوني على عدوانه ضد لبنان عملية "أمطار الصيف". وأهم من الأسماء والتعبيرات هو مضمونها، أي فن الحرب. وقد كتب فيه علماء الاستراتيجية مثل كلاوشفتز وتسن سو والجنرال جياب وجيفارا تنظيراً للممارسات العسكرية التي أدت إلى انتصار الجيوش وضد الأساطير التي ينسجها الأعداء كنوع من الحرب النفسية لتحقيق النصر قبل أن تبدأ المعارك. فالمعارك ليست فقط بالسلاح حين المواجهة بل أيضاً بالصور النمطية التي يخلقها كل طرف للطرف الآخر. وقد نسج العدو الصهيوني حول نفسه أسطورة "العدو الذي لا يُقهر" اعتماداً على الحروب العربية الإسرائيلية السابقة منذ عام 1948 وحتى عام 1967، مع أنه كان لكل حرب ظروفها؛ هزم فيها العرب ليس لقوة العدو، بل لضعف العرب. ففي هزيمة 1948 دخلت الجيوش العربية مفككة مفرقة في مواجهة عصابات منظمة، أركان حربها أقرب إلى قوات الاحتلال البريطاني لفلسطين. أسلحتها فاسدة. ومع ذلك حافظت على نصف فلسطين بعد أن رفض العرب قرار التقسيم. وفي العدوان الثلاثي عام 1956، كانت إسرائيل بمثابة دراجة ممسكة بعربة نقل كما صور موسى ديان. ولم تحدث مواجهة بين الجيش المصري والجيش الإسرائيلي بعد الأمر بالانسحاب. وفي هزيمة 1967 لم تحدث مواجهة أيضاً بعد الأمر بالانسحاب إثر تدمير سلاح الطيران المصري. أما حرب الاستنزاف في 1968-1969 فقد أوجعت إسرائيل. وفي حرب أكتوبر بدأت أسطورة العدو الذي لا يُقهر في الانقشاع نظراً للأداء العلمي العسكري خلال عبور سيناء والتنسيق العسكري المصري السوري على جبهتين في آن واحد. أقام العدو الصهيوني استراتيجيته العسكرية على الحرب الخاطفة بحد أقصى أسبوعاً كما حدث في حرب الأيام الستة. فلما طالت في حرب أكتوبر بدأ الانهيار التدريجي للأسطورة. وقامت خطتها على سلاح الطيران والقوة التدميرية الهائلة، الحرب عن بُعد ودون مواجهة. فلما صمم العرب دفاعاتهم الجوية على الصواريخ المضادة للطائرات في حرب أكتوبر سقط سلاح الجو الإسرائيلي أمام حائط الصواريخ. وانتهت أسطورة الذراع الطويلة. وبعد عمليتي "تبديد الوهم" التي قامت بها المقاومة الفلسطينية وعملية "الوعد الصادق" التي قامت بها المقاومة اللبنانية، غيّر العرب استراتيجيتهم طبقاً لإمكانياتهم وتراثهم العسكري. فانهارت أسطورة العدو الذي لا يُقهر. ففي مقابل طيران العدو، ذراعه الطويلة، ظهر الصاروخ تجاه المدن. ولأول مرة تنتقل المعركة إلى داخل الأراضي المحتلة منذ عام 1948. وضُربت نهاريا وعفولة وطبرية وصفد وغيرها من مدن الشمال، وحيفا وعكا من مدن الساحل. فسماء العدو مفتوحة. تعودت على الهجوم وليس الدفاع. ولم تستطع صواريخ باتريوت المضادة للصواريخ اقتناص صواريخ الكاتيوشا أو رعد، لاختلاف مستويات الارتفاع. ونزل الإسرائيليون إلى المخابئ. وغادر السياح. وتحول مليونان من العاملين إلى عاطلين. ونزحوا إلى الجنوب. وانتابهم الرعب. وذاقوا مما ذاق منهم الفلسطينيون واللبنانيون. فالسماء مفتوحة للجميع، ليس فقط لطيران العدو بل لصواريخ المقاومة. بالإضافة إلى دقة التصويب باستراتيجية سياسية محسوبة، تتوقف على مدى استهداف طيران العدو المدنيين اللبنانيين. مصافي حيفا ومصانعها البتروكيميائية والإلكترونية في المرمى. وتستطيع صواريخ المقاومة أن تنال ما هو أبعد من حيفا وعكا وطبرية، ومدن بئر سبع واللد والرملة وعسقلان، وإيلات قريبة من فلسطين ومصر والأردن والسعودية لو قامت الحرب الشاملة. وتستطيع المقاومة الصمود شهوراً. والعدو الصهيوني لا يستطيع أن يصمد أسابيع. فالجند هم العاملون. والاحتياط يحارب ولا ينتج. وبالتالي انتهت استراتيجية الحرب الخاطفة. وقد كان الأسير الإسرائيلي الطيار يسأل بعد إفاقته: هل الحرب مازالت قائمة؟ فيُقال له: نعم، فيصاب بالإغماء. فإذا فاق مرة ثانية يسأل: وهل مصر مازالت تحارب؟ فيُقال له: نعم. فيُغشى عليه ولا يفيق. كانت الحروب السابقة جيشاً في مواجهة جيش، ودولة في مواجهة دولة. بل دولة في مواجهة دولتين أو ثلاث أو اثنتين وعشرين دولة عربية. وأقام العدو استراتيجيته على التفوق عليها جميعا كيفا وكما في نوعية السلاح. والآن يقف شعب في مواجهة جيش، ومقاومة في مواجهة دولة. والشعب في كل مكان. والمقاومة تحت الأرض. لذلك لم يجد العدو أمامه إلا ضرب المدن وقتل المدنيين، أطفالاً ونساء وشيوخاً وشباباً، وتدمير البنية التحتية، جسوراً وطرقاً ومحطات طاقة وثكنات جيش ومحطات إرسال، بل وشاحنات خشية من نقل الصواريخ، وعربات مدنية خشية من حركة المقاومة. ولم يجرؤ العدو حتى الآن على القيام بغزو بري للجنوب كما فعل من قبل عند احتلاله بيروت عام 1982، والقضاء على المقاومة الفلسطينية واللبنانية فوق الأرض. يخشى المواجهة الأرضية وجها لوجه. لا يقاتل إلا في حصون حديدية أو عن بعد في عنان السماء أو في عباب البحر. وإذا كانت الحروب العربية الإسرائيلية السابقة قد قامت على التخطيط من جانب العدو، والارتجال والخطابة والعنتريات التي ما قتلت ذبابة من جانب العرب، فإن العرب، مصريين وسوريين، في حرب أكتوبر، عبروا القناة والجولان بناء على تخطيط علمي دقيق لخط بارليف، تيارات المياه في القناة، وسد فتحات اللهب، واختراع مدافع المياه لشق الساتر الترابي، والقوارب المطاطية، وضرب مراكز القيادة المتقدمة في عمق سيناء، والرجل في مواجهة الدبابة، والصاروخ في مواجهة الطائرة. فالعلم العسكري ليس حكراً على شعب دون شعب. ولا تمتاز به حضارة عن حضارة أخرى. وإذا كان الإعلام العربي في الحروب العربية الإسرائيلية السابقة قد غلب عليه التهويل والكذب والخداع، في حين أن أعلام العدو كان أقرب إلى الصدق، إذ لا يحتاج المنتصر إلى دعاية لخداع الشعب، فإنه تحول منذ حرب أكتوبر 1973 إلى إعلام دقيق وصادق يخبر عن حقائق. واستمر ذلك في الحرب العربية الإسرائيلية السادسة. إذ تميز إعلام المقاومة بالصدق والدقة دون ادعاء حتى ولو كان إسقاط طائرة للعدو. في حين لجأ إعلام العدو إلى الحرب النفسية لرفع معنويات جنوده حتى يقبلوا المواجهة مدفوعين بأسطورة العدو الذي لا يُقهر. ورغم استعمال العدو الصهيوني للأسلحة المحرمة دولياً، إلا أنه في لحظة يأس قد يستعمل مخزونه النووي، وله في تراثه ما يبرر ذلك في عقدة "الماسادا"؛ الانتحار ساعة الخطر، وكما فعل شمشون. ومن الواضح أنه لا فرق بين يسار ويمين ووسط في إسرائيل. فوزير الدفاع من اليسار، ورئيس الوزراء من الوسط، وزعيم المعارضة من اليمين. والكل يجمع على ضرورة الاستمرار في الحرب حتى تحقق إسرائيل شروطها: الإفراج عن الأسرى الثلاثة، نزع سلاح "حزب الله"، وضع قوات دولية في جنوب لبنان تقوم بدور جيش لبنان العميل السابق الذي قضت عليه المقاومة بعد تحرير الجنوب. فاليسار الإسرائيلي أسطورة. وإذا كان الرأي العام العالمي، وقرارات الأمم المتحدة، والدول الثمان، والاتحاد الأوروبي كله لصالح إسرائيل، ولا أحد يذكر العشرة آلاف أسير عربي في سجون إسرائيل، وإذا كان الكل يعترف بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ولا أحد يذكر حق المقاومة لتحرير الأراضي المحتلة طبقا لمواثيق الأمم المتحدة... فليس أمام العرب إلا أنفسهم. وكما جربوا الهزائم فإنهم قادرون على تجربة الانتصارات.