أثناء تناولي لفنجان قهوة تركية في ذاك الصباح الدمشقي, إذا بعيني تقع مباشرة على مربع صغير في أعلى الصفحة الأولى من صحيفة "سوريا تايمز" الإنجليزية, جاء فيه "الشرق الأوسط عشية الحداثة" وكان ذلك المربع بمثابة مؤشر يحيل القارئ إلى المقال المنشور في الصفحة الخامسة من العدد. وسرعان ما قلت لنفسي: يا لها من طريقة مثالية لوصف الشرق الأوسط اليوم. فهل هو في طريق عودته مجدداً الآن إلى مرحلة سابقة للحداثة؟ هل هذه سخرية من نوع ما تحاول "سوريا تايمز" بثها فينا ذلك الصباح؟ ولكن الذي اتضح لي لاحقاً أن ذلك العنوان يعود إلى كتاب عن مدينة حلب في القرن الثامن عشر. وكم سيكون ملائماً وذكياً فيما لو كان على رأس قصة خبرية. ومما لا شك فيه أن كوندوليزا رايس قد أخطأت التقدير كثيراً بوصفها لما يجري في لبنان اليوم بأنه يمثل بدايات وآلام مخاض شرق أوسط جديد. وليت لو انطبقت الصفة على الموصوف, وكان الشرق الأوسط كما رأته "رايس" بحق. غير أن الحقيقة الساطعة التي تتراءى لنا الآن هي إن ما يجري في لبنان والعراق وفلسطين اليوم, إنما هو آلام مخاض لولادة ثانية للشرق الأوسط القديم. وما الاختلاف الوحيد هذه المرة سوى دعم الولادة الجديدة هذه بوقود وأموال النفط وترسانة السلاح الأشد فتكاً ودماراً. وفي هذا الشرق الأوسط القديم المتجدد, عادة ما تعود لتنفجر مرة تلو الأخرى, وتطفو إلى السطح بعض العواطف والتناحرات الأشد قبلية وطائفية, من قبيل الخلافات بين المسلمين الشيعة والسُنة, واليهود والمسلمين واللبنانيين والسوريين وغيرها, على رغم سعي الحكومات والأنظمة السياسية الحديثة لضبطها والسيطرة عليها, سواء بالتشريعات والعمل السياسي, أم بتعزيز الروابط الثقافية والدينية والحضارية بين هذه الفئات المتناحرة. والحقيقة المترتبة على سابقتها هي أنه ليس في وسع أحد فعل ما من شأنه وقف انزلاق الشرق الأوسط إلى حافة الجنون. فليس ثمة زعيم من شاكلة نيلسون مانديلا, ولا مسيرة مليونية للأمهات تستطيع وقف هذا الانزلاق. ثم إني لا أستخدم عبارة الجنون هنا مجازاً وإنما بمعناها الحرفي الدقيق. كيف لا وقد رأينا المسلمين السُنة ينفذون عملية انتحارية ضد المصلين الشيعة في أحد المساجد في نهار شهر رمضان؟ وفي المقابل فقد رأينا الميليشيات الشيعية وهي تثقب رؤوس ضحاياها من المسلمين السُنة, مستخدمة المثقاب الكهربائي. ثم رأينا بعض أعضاء البرلمان الأردني الإسلاميين وهم يتباكون وينتحبون على مصرع زعيم "القاعدة" الإرهابي أبو مصعب الزرقاوي في العراق, على رغم الجريمة النكراء التي ارتكبها بقتله العشرات من المواطنين الأردنيين خلال حفل عرس كانوا يقيمونه في أحد فنادق العاصمة عمّان. وفي فلسطين شهدنا مئات العمليات الانتحارية التي نفذها المقاتلون المتشددون بحق المدنيين الإسرائيليين في المقاهي والمطاعم والحافلات إلى آخره. كما رأينا كيف ترد إسرائيل على مثل هذه الاعتداءات بعنف وحشي يعصف ببنايات بكاملها, دون أن تميز بين المذنب والبريء داخل تلك البنايات. والآن فقد رأينا كيف جرّ حسن نصر الله زعيم "حزب الله", هذا الوبال والدمار على الشعب اللبناني بأسره, بشنه هجوماً غير مبرر على إسرائيل. وفي تقديري أن حسن نصر الله لم يفعل ما فعل, سوى سعيه لتعضيد موقفه السياسي وتخفيف عبء الضغوط الدولية الممارسة على طهران. وكان على أميركا أن تشد من أزر قوى النظام والعقلانية, ممثلة في أوروبا وروسيا والصين والهند, ورص صفوفها جميعاً في تحالف دولي موحد ضد منزلقات واتجاهات الجنون هذه. ذلك إن رئيسنا ووزيرة خارجيته يفتقران إلى السلطة والمصداقية الأخلاقية, على رغم وضوحهما وإجادتهما للحديث عنها. والسبب أن هذه المصداقية قد عصفت بها فضائح ومعايب أدائنا العسكري والأخلاقي في العراق. غير أن جزءاً مما يحدث في الساحتين الدولية والإقليمية, إنما مرده إلى شق كل من أوروبا والصين وروسيا ,عصا الطاعة وخروجها عن دائرة النفوذ الأميركي. وفي عالم ما بعد الحرب الباردة هذا الذي شكلته الولايات المتحدة, إنما تحقق هذه الدول أرباحاً وتعقد صفقات بمنأى تام عن نفوذ واشنطن, مع تهربها من تحمل أي مسؤوليات مترتبة عليها في ظل النظام الدولي الجديد. وفي هذا ما يضر كثيراً بالاستقرار الأمني الدولي. ولك أن تنظر كيف تمكنت ميليشيا متطرفة تسمى نفسها "حزب الله" من جر بلد بكامله إلى ساحة الحرب, وكيف تبرع في استخدام تكنولوجيا الصواريخ المتقدمة في شن حرب غير مبررة ولا ضرورة لها ضد إسرائيل. ثم أنظر إلى الشلل الذي أصاب به متشددو طهران النظام الدولي برمته! غير أن الذي لا بد من قوله هنا, إن من يتجاهلون هذه المهددات والمخاطر على النظام الدولي كله, إنما سيفاجأون بها يوماً وهي تطرق أبواب بيوتهم بالذات. ولن يكون ثمة شرق أوسط جديد حتى تكف هذه المنطقة من العالم عن قتل قادة الحداثة من أمثال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري, وحتى يعمد تقليديوها من أمثال حسن نصر الله إلى بناء جامعة شرق أوسطية حديثة, بدلاً من تطويره الصواريخ التي يقصف بها إسرائيل, وحتى تكف صحافتها عن تحريض الشباب وحضهم على ثقافة الاستشهاد والقتل. وفيما عدا ذلك, فسوف يراوح الشرق الأوسط مكانه التقليدي دائماً في "عشية الحداثة"! توماس فريدمان ــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"