لا زالت إسرائيل تقصف ربوع لبنان بوحشية متناهية، إلى جانب ما تقوم به من أعمال عنف أخرى ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية. فما الذي تريده من ذلك، وهل يمكن لها تحقيق ما تريد؟ إن الأهداف المعلنة لإسرائيل هي تحرير ثلاثة من جنودها المأسورين من قبل المقاومة الفلسطينية و"حزب الله"، وتدمير البنى التحتية لـ"حماس" و"حزب الله" في فلسطين ولبنان. ولكن واقع الحال ليس كذلك بالتحديد، فإسرائيل تعلم جيداً صعوبة تحرير الجنود الثلاثة في نفس الوقت الذي تعلم فيه استحالة القضاء على "حماس" و"حزب الله"، لأنهما منظمتان مندمجتان في بحر اجتماعي واسع، وتشكلان جزءاً من النسيج والتركيبة الاجتماعية المعقدة في كلا القطرين. إن ما تقوم به إسرائيل حالياً يمكن فهمه أكثر في محتوى مختلف، هو إظهار حاجة إسرائيل الملحة إلى إعادة تأسيس مبدأ قدرتها الفائقة على الردع في الحالات التي تتعرض فيها للهجوم أو التحرش، مثلما حدث في حالة الجنود الثلاثة. ويعزز قولنا هذا إن سياسة إسرائيل في الدفاع عن نفسها تقوم منذ تأسست، على مفهوم أن أمنها يمكن أن يتحقق فقط عندما يقوم جيرانها العرب بقبولها ككيان شرعي معترف به بالكامل. ولكن ما هو حاصل هو أنها وإلى هذه اللحظة، لم تتمكن من تحقيق ذلك الاعتراف برغم بعض ما تحقق نتيجة لاتفاقات كامب ديفيد ووادي عربه و"أوسلو". إذن، فإنه وفقاً لاستراتيجية إسرائيل بعيدة المدى، فإن الأمن الحقيقي لا زال غائباً، وإن نعمت ببعض الهدوء في فترات متقطعة. وعليه فإن هدف إسرائيل هو، المحافظة الدائمة على قوة عسكرية غاشمة ترهب بها جميع دول المنطقة العربية. ولا تفوتني الإشارة إلى أن تلك القوة المتفوقة تتضمن سلاح ردع نووياً فعال غير معلن عنه رسمياً، رغم أن العالم أجمع يعلم به. ولكن الملاحظ هو أنه وفقاً لتطورات الزمن الحديث، فإن قدرة إسرائيل على الردع آخذة في التآكل شيئاً فشيئاً، بسبب نتيجة أولية هي تغير طبيعة وسائل الحرب القائمة بينها وبين منظمات المقاومة. إن المشهد العسكري بين دول المنطقة وإسرائيل، يفصح تماماً عن عدم قدرة أي دولة عربية على شن حرب تقليدية ناجحة تهدد أمن إسرائيل. وفي نفس الوقت وكما أشرنا، فإن قوة الردع الإسرائيلية آخذة في التراجع أيضاً في هذه المرحلة. ويعود السبب في ذلك إلى أن إسرائيل لم تتمكن حتى هذه اللحظة من القضاء على فصائل المقاومة في فلسطين ولبنان، والتي استطاعت التأثير على أمن إسرائيل بطريقة فعالة لم تحققها جميع الجيوش العربية التي دخلت في حرب مع إسرائيل منذ قيامها. وهنا يمكن القول إن تحقيق الانتصار على الجيوش النظامية مسألة ممكنة التحقق، ولكن القضاء على المقاومة الشعبية التي يعيش أفرادها وسط بحور من الجماهير، هي مسألة أخرى تماماً. إن ما تقوم به إسرائيل حالياً من تدمير للبنى التحتية في لبنان وأراضي السلطة الفلسطينية، يهدف إلى أمرين محددين: الأول هو الاستمرار حتى النهاية في استخدام العنف المفرط في كل البلدين، إلى أن تصل في النهاية إلى منع كل من "حزب الله" و"حماس" من القدرة على توجيه الصواريخ إلى أراضيها. لذلك يلاحظ ما يتم من تأخير متعمد بالنسبة لإعلان وقف إطلاق النار حيث تعمل العديد من الجهات الدولية الفاعلة، على تسهيل مهمة إسرائيل في هذا الاتجاه. والأمر الثاني هو توجيه رسالة واضحة إلى كل من سوريا وإيران، تفيد بأن شنّ الحروب بالإنابة على إسرائيل بهذه الطريقة عملية مرفوضة تماماً ويجب أن تتوقف. ويرتبط بالنقطة الثانية، أن إسرائيل تعتقد بأن المشكلة الخطيرة القائمة حالياً، لا يمكن أن تصل إلى نهاية حقيقية لها، ما لم تتحمل كل من سوريا وإيران جزءاً من المسؤولية. وبالتأكيد فإن إسرائيل ستستمر في عدوانها على لبنان وفلسطين طالما أن المجتمع الدولي برمته، بما في ذلك البلاد العربية، تقف موقف المتفرج مما يحدث على الساحة في هذه اللحظة، وطالما بقيت المماطلات قائمة بهدف إطلاق يد إسرائيل لأطول وقت ممكن، حتى تحقق أهدافها المشار إليها بطريقة كاملة.