لبنان يحترق. والعراق يحترق. وفلسطين تحترق أيضاً، كل ذلك يحدث بينما الأسود العربية الأشاوس في البلدان الثلاثة، يزعمون أنها على وشك الوصول إلى تحقيق النصر ودحر الأعداء! كم ذلك مؤسفاً لمن يتابعه! ولعل أكثر ما يبعث على الأسف، هو العدد الكبير من العارفين بشؤون العالم العربي والنقاد وكتاب أعمدة الرأي، والذين لا يحثوننا، في المقالات تلو المقالات التي تنشرها صحفنا، وعبر الشبكات التلفزيونية الجهادية في قطر وسوريا وأماكن أخرى... إلا عن المقاومة والنضال والتصدي والجهاد... وكأنهم يتلذذون بالدخان المنبعث من الجثث المحترقة والمتفحمة في بيروت وبغداد وغزة. قبل ثلاثة أسابيع فقط، كان لبنان يشهد أفضل موسم سياحي وأكثره رواجاً منذ عام 1974. وكان الاقتصاد اللبناني يشهد طفرة كبيرة بكل المقاييس، حيث كان عشرات الآلاف من اللبنانيين قد عادوا من الخارج لقضاء الإجازة الصيفية مع عائلاتهم، وعشرات الآلاف من السياح العرب قد قدموا لزيارة واحد من أجمل البلدان العربية، إلى جانب مئات الآلاف من السياح الأجانب. غير أن حسن نصر الله رأى أن اللبنانيين لا يستحقون كل ذلك الخير، فقرر أن يشن حربه الخاصة ضد إسرائيل، على الرغم من أنه يعلم علم اليقين بأنه سيُقدم مرة أخرى على تدمير بلاده وتعريضها لخراب لا قبل لها به. والحقيقة أنه كان من المتوقع أن الرد الإسرائيلي لن يتأخر إذا ما أقدم "حزب الله" ومقاتلوه المغامرون على مهاجمة إسرائيل، وأن النتائج لن تقتصر على أهداف لـ"حزب الله" فحسب، وإنما ستشمل، كما حدث بالفعل، نزوح نحو مليون ونصف مليون لبناني عن منازلهم، حفاة وجوعى وبلا أمن، بعد أن تعرضت منازلهم وبساتينهم ومصانعهم الصغيرة، لقصف الطائرات والمدفعية الإسرائيلية. وعلى المنوال نفسه، قرر أسود حركة "المقاومة الإسلامية" (حماس) في فلسطين أيضاً البدء بإطلاق القذائف الصاروخية على مدن وبلدات إسرائيل، وتنفيذ هجوم عبر أحد الأنفاق التي حفروها خصيصاً، حيث قتلوا خلال تلك العملية جنديين إسرائيليين واختطفوا ثالثاً، مصرين على أنهم لن يعيدوا الجندي الأسير، حتى بعد أن حذرت إسرائيل من أنها ستقوم بتدمير قطاع غزة بكامله! ونتيجة لذلك الموقف "الحمساوي"، ها هي إسرائيل تنفذ اليوم وعيدها، محطمة القطاع كله، مع ما يرافق ذلك من قتل لعشرات الفلسطينيين وإصابة المئات وتدمير البنى التحتية، من طرق وجسور ومدارس ومستشفيات ومصانع ومزارع. وما ذلك إلا بعض النصر الموعود للقضية الفلسطينية! أما في العراق، فقد قرر جهاديون من السنة تنفيذ عملية تقتيل مفتوحة ضد المواطنين الشيعة. ونتيجة لذلك، وكرد على ذلك العمل، عمد بعض الجهاديين من الشيعة إلى تنظيم حملة تقتيل ضد السنة بواقع 100 شخص بريء كل يوم، وجميع هذه الأعمال، كما نرى، تتم باسم الإسلام والإسلام منها براء. وفي غضون ذلك، ما زال العراق يحترق وينزف، وحكومته الجديدة تغرق وتزداد عجزاً، والاحتلال الأميركي مستمر من دون أن يقض مضجعه أحد في الغالب الأعم. واقعٌ محزن يثير جملة من الأسئلة: فمن هو بصدد الفوز في الحرب الدائرة رحاها يا ترى؟ ولماذا يخوضون هذه الحرب أصلاً؟ الواقع أن هذه الحرب ليست حرباً لتحرير العراق، بل حرب لتدميره وتفتيته. كيف يجرؤ أي أحد على الادعاء بأن الأمر يتعلق بمقاومة، وطنية أو إسلامية، بطولية؟ وعودة إلى موضوع لبنان ومغامرات "حزب الله" وعنتريات زعيمه حسن نصر الله، وصف الزعيم اللبناني الدرزي وليد جنبلاط، خلال مقابلة تلفزيونية أذاعتها إحدى القنوات الفضائية العربية، قبل بضعة أيام، تكتيكات "حزب الله" في لبنان بدقة عندما تساءل بشأن حدود المليشيا الشيعية في حربها مع إسرائيل. وفي هذا السياق، قال جنبلاط: "لقد اتخذ حسن نصر الله قراراً بخوض الحرب بدون التشاور مع أحد، غير أن السؤال الأهم هو: هل ثمة بالفعل إجماع لبناني على أن يكون لبنان منطلق صراع الأمة؟". وهكذا فقد قرر رجل واحد باسم المسلمين كافة أن يحارب إسرائيل وأن يجرنا معه بدون تشاور! لقد قلت في مقالات سابقة إن نصر الله مغامر، غير أنه بالنظر إلى ما جرّه على لبنان خلال الأسبوعين الماضيين، يمكن اعتباره أكثر من ذلك! وكي يزيد الطين بلة، أعلن رئيس مجلس الشورى الإيراني من طهران أن "من لبنان ومن ميس الجبل ومن عيتا الشعب سننطلق لنحرر كل فلسطين شبراً شبراً". الواقع أنه إذا كانت إيران تؤمن بذلك فعلاً، فلماذا لا تحارب إسرائيل بنفسها انطلاقا من طهران، وليس من بيروت؟ ولماذا بيروت دائما هي التي يرغب أسود القومية العربية الأشاوس أو نمور الإسلام الجهادي توظيفها لأحلامهم التحريرية؟ ولماذا لا تُستعمل مرتفعات الجولان التي تقبع تحت الاحتلال لإسرائيلي منذ عام 1967 لهذا الغرض التحريري العظيم؟! لقد أثار جنبلاط سلسلة من التساؤلات الوجيهة، ومنها مثلاً: "لماذا يوجد اتفاق فصل على أرض محتلة في الجولان السورية؟ ولماذا يزور الجولان ما بين 4 و5 ملايين سائح إسرائيلي وغير إسرائيلي؟ ولماذا لم تُسمع طلقة نار واحدة في الجولان منذ عام 1974 وحتى الآن؟". الواقع أنني وددت لو أسمع جواب طهران ودمشق وقناة "الجزيرة" في قطر والسيد حسن نصر الله على هذه الأسئلة! إن إسرائيل هي إسرائيل. لقد خاض العرب الحرب معها في عام 1973 من أجل استرجاع أراضيهم. وقد كانوا مستعدين للحرب، كما كانوا مدركين لعواقبها والأهداف من ورائها. أما مغامرة السيد نصر الله، والذي يبدو أنه لا يرغب إلا في صنع اسم لنفسه على حساب شعبه، فلا يبدو أنها ستكون ذات جدوى أو نفع. والحقيقة أننا إذا كنا لا نستطيع التغلب مجتمعين على إسرائيل، فعلينا أن نبرم السلام معها. أما أن نخوض الحرب كل بضع سنوات، لا لشيء إلا لنخسرها ونموت ونحرق بلداننا، فذلك عمل عقيم وبلا طائل.