بالنسبة لمن هم من أمثالي ممن زاروا لبنان عدة مرات وفي مناسبات مختلفة، ولا يزالون يحملون الكثير من الذكريات عن مناظر جباله وسواحله الطبيعية الساحرة الخلابة، فإنه لمن الطبيعي أن يروعهم جداً هول ما يتابعونه من صور وأخبار مرعبة تبثها الفضائيات والقنوات التلفزيونية المختلفة عن الدمار الذي لا يوصف والذي طال جوانب الحياة فيه على اختلافها، جراء حملة القصف الجوي الإسرائيلية المتواصلة هناك. وقد أسفرت هذه الحملة حتى الآن عن مصرع ما يقارب الـ400 مواطن لبناني -غالبيتهم العظمى من المدنيين الأبرياء- بينما بلغ عدد الجرحى والمصابين عدة آلاف، إلى جانب تشريد نصف مليون من سكانه من بيوتهم وقراهم. وفي هذا الموقف، فقد اتسم أداء الحكومة البريطانية بكثير من الضعف والقصور. ويذكر هنا أن سير منزيز كامبل -زعيم الديمقراطيين الليبراليين والرئيس السابق لمجلس الليبراليين الديمقراطيين الشرق أوسطي- كان قد توجه بسؤال في التاسع عشر من يوليو الجاري إلى رئيس الوزراء توني بلير في مجلس العموم, حول ما إذا كان على وفاق مع العمليات العسكرية الإسرائيلية الجارية في لبنان؟ وكان من رأي سير منزيز أن ردة الفعل العسكرية الإسرائيلية على الهجمات والاعتداءات التي تعرضت لها من قبل "حزب الله"، لم تكن متناسبة وأن فيها إفراطاً في استخدام القوة من الجانب الإسرائيلي. وهذا هو عين الرأي الذي أؤمن به من ناحيتي أيضاً. وجاء رد بلير على ذلك السؤال بقوله إن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها، شريطة الحرص على خفض عدد القتلى والضحايا في أوساط المدنيين أثناء ردها العسكري على العدوان الذي تعرضت له! ولكن هل يعتقد بلير حقاً أن الأمر سيمضي على هذا النحو؟ يقيناً إن رد بلير على السؤال قد بني على اعتقاده بأن هذا العدوان الإسرائيلي الأخير، إنما تعود بداياته ودوافعه إلى حادثة اختطاف الجنديين، وإلى قصف المدن والضواحي الواقعة شمالي إسرائيل. ولكن في "قمة الثماني" الأخيرة المنعقدة في مدينة سان بطرسبرج الروسية، يذكر أن الميكروفون قد التقط وسجل حديثاً عفوياً دار بين كل من بلير وجورج بوش، أعلن فيه الأول عدم رغبته صراحة في أن تفارق سياسات بلاده كثيراً تلك التي يتبعها صديقه وحليفه في البيت الأبيض. ضمن ذلك وفي سياقه فإن المملكة المتحدة تتطلع إلى الولايات المتحدة الأميركية وليس إلى الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بحل المأزق العراقي. ويا له من خطأ فادح صدر عن بلير! والمؤكد هنا أن السياسات البريطانية الشرق أوسطية تصنع هذين اليومين في داونينج ستريت 10 حيث مقر رئيس الوزراء –وليس في الخارجية البريطانية- مع العلم أن هذه الأخيرة عرفت تاريخياً بمساندتها ووقوفها إلى جانب العرب. إلى ذلك لا تزال مارجريت بيكيت وزيرة الخارجية الجديدة، شخصية مجهولة ولا يعرف عنها شيء فيما يتصل بآرائها في السياسة الخارجية لبلادها. وكل الذي تفعله في القيام بواجبات عملها اليومي، هو الذهاب إلى داوننج ستريت لتلقي الأوامر من هناك. لذلك فربما يكون من رأي كبار مستشاريها الدبلوماسيين أن ما تقوم به إسرائيل من عمليات عسكرية واستخدام مفرط للقوة، من شأنه أن يفاقم الأزمة الحالية. ولكن أنى لهم الحصول على تأييدها ودعمها لما يقولون؟! وفيما يتصل بصورة "حزب الله" في الصحافة البريطانية, فإنه لم يحظ مطلقاً بأي صورة إيجابية فيها. فمنذ اختطاف تيري ويت، كبير أساقفة كانتربري واحتجازه من قبل مقاتلي "حزب الله" في زنزانة كئيبة موحشة في العاصمة بيروت، ظل ينظر إلى هذا الحزب على أنه منظمة متطرفة إرهابية, وأنه أبعد ما يكون عن الحركة التحريرية. وللسبب عينه, فإنها لمفاجأة كبيرة لغالبية المواطنين البريطانيين أن يكون لهذا الحزب 14 مقعداً من جملة المقاعد البرلمانية اللبنانية البالغة 128, وكونه راعياً على درجة عالية من المهنية والكفاءة لكبرى مؤسسات العمل الخيري الإنساني اللبناني– وهو ما تدعمه وتؤيده الحكومة البريطانية على نحو أقرب ما يكون إلى السرية- إضافة إلى تمتعه بتأييد شعبي واسع النطاق من قبل المسلمين الشيعة في الجنوب اللبناني. إلى ذلك فمما لا شك فيه أن الصحافة البريطانية ظلت تنظر دائماً إلى مقاتلي "حزب الله" على اعتبارهم أسوأ ما عرفه التاريخ اللبناني المعاصر على الإطلاق. أما بالنسبة لموقف الرئيس جورج بوش، فقد أشارت كافة استطلاعات الرأي العام الأميركي التي أجريت مؤخراً إلى انحدار شعبيته إلى أدنى مستوى لها منذ توليه منصبه الرئاسي. وقد بلغ هذا الانحدار حداً بات يشكل فيه تهديداً جدياً لمصير الحزب الجمهوري برمته في الانتخابات التكميلية النصفية المقبلة. وفي النزاع الشرق أوسطي الجاري حالياً, فإنه لا فكاك لتل أبيب وواشنطن من هذا التحالف الوثيق العرى بينهما حتى لحظة انجلائه. إلى ذلك فقد دعت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية إلى وقف لإطلاق النار بين الطرفين المتنازعين في لبنان "متى ما كانت الظروف ملائمة لذلك"! وكان طبيعياً أن يلتقط رئيس الوزراء الإسرائيلي من هذه العبارة الأخيرة, الرسالة الضمنية الواردة فيها, ويدرك أن لديه متسعاً من الوقت لنشر قواته في داخل الحدود اللبنانية, على نحو ما نرى بالفعل. وفي مواجهة موقف أو أزمة دولية كهذه, تنحاز فيها الولايات المتحدة الأميركية إلى طرف واحد من أطراف النزاع- وهي الدولة العظمى الوحيدة في عالم اليوم, والتي يكون لمواقفها ونواياها وزن دولي لا يمكن التقليل من شأنه في كل صغيرة وكبيرة من مجريات هذا العالم- فإن من الطبيعي أن تجد الأمم المتحدة نفسها فاقدة للحيلة, ملوية الذراع وعاجزة عن التأثير والفعل. على أن هذه الحقيقة لا تقدح مطلقاً، لا في مواقف ولا نوايا كوفي عنان الأمين العام للمنظمة الدولية وكبار موظفيه, ولا تطعن في رغبتهم في أن يكون للمنظمة دور أكبر وأكثر فاعلية في التصدي للأزمة الراهنة بين لبنان وإسرائيل. وليس أدل على هذا من دعوته لوقف فوري لإطلاق النار، يحظى بتأييد الشخصيات والقيادات الدينية العالمية, بمن فيها بابا الفاتيكان وكبير أساقفة كانتربري. غير أن المشكلة هي أنه ليس في اعتقاد أي من طرفي النزاع الحالي أن في مصلحته الاتفاق مع الطرف الآخر, وإن كان اتفاق حد أدنى لا تتجاوز نسبته الواحد في المئة فحسب! والمؤسف حقاً أن مجلس الأمن الدولي لم يسارع إلى مناقشة هذه الأزمة قبل تفاقمها, مع العلم أن في وسعها المضي إلى أسوأ مما هي عليه الآن، فيما لو انضمت إلى حلبتها سوريا وإيران.