الأحداث الكبيرة في حياة الأمم لا يمكن أن تأتي عرضاً، أو أن تتوالى آثارها بدون سياق، سواء كانت إيجابية أم سلبية، وسياق المطلب الشعبي الحقيقي هو الذي يجب أن يحتل موقعه في الذاكرة الوطنية القطرية والقومية. ومما يثير السخرية أن حدث تأميم قناة السويس الذي يمر عليه هذا الأسبوع نصف قرن، قد جرى التأريخ له أحياناً باعتباره جاء عارضاً، نتيجة عناد متبادل بين إدارة البنك الدولى وزعيم جديد يعمل على تأكيد مكانته (عبد الناصر). بل فى روايات بثها كاتب كبير ومشهور، فإن عبد الناصر كان يجلس إلى نافذة الطائرة عائداً من زيارة لصديقه تيتو، فقفزت إلى رأسه فكرة تأميم قناة السويس، ليرد على رفض البنك ويمضي في بناء مشروع السد العالي من عائدها الكبير فى حينه. مثل تلك الرواية تلغي سياق بناء الثورة المصرية كله، من ناحية، ومن ناحية أخرى تترك الذاكرة الوطنية محشوة بالروايات الدرامية التي لا تصدر إلا عن صحفي ماهر، ذلك عندما لا يشار مثلاً إلى أن الدكتور مصطفى الحفناوي، كان ضمن حركة في مصر طالبت بإلغاء معاهدة 1936 مع بريطانيا في مظاهرات عام 1951، وامتدت للمطالبة بتأميم قناة السويس في محاولة لإلزام حزب الأغلبية (الوفد) وقتها بربط المطلبين على صعوبتهما. ومن الخطر- حتى الآن- أن تبنى الذاكرة الوطنية لشعب أو لأمة في حدود بناء صورة الأفراد بدون سياقها الإقليمي والعالمي ناهيك عن أهمية ذلك داخل البنية الوطنية. فما هو سياق تأميم قناة السويس بمناسبة الذكرى الخمسين لهذا الحدث الكبير؟ كان تأميم السويس أكبر حتى من مجرد تأكيد حق الشعب في ثروته، واستثمار هذه الثروة في تشييد البنى التحتية الأساسية بإقامة السد العالي لصالح الزراعة والكهرباء في مصر. فقد سبقت ذلك أشكال من العمل الوطني هي ما يبني ذاكرة الشعوب العربية. فقرار ضرورة إجلاء الإنجليز من مصر عقب ثورة 1952، ظل شاغل الثورة وشعبها منذ بداية عام 1953، وارتبط ذلك بمناورات متبادلة مع الإنجليز حول السودان. وقد روى لي محمد فايق- وأنا أسجل معه ذكرياتنا عن العمل الأفريقي (تحت النشر) أنه سأل عبد الناصر نفسه عن إمكان التسليم بهذا الحق، بينما الشارع المصري يردد مقولة: "مصر والسودان تحت التاج" بتأثير حركات سياسية واسعة، فكان رده أنه لا يمكن أن تقول الثورة برحيل الاستعمار عن مصر، ثم يبقى شكل استعماري في السودان. ولأن الإنجليز لم يصدقوا أن هؤلاء الشبان "البسطاء" من قادة يوليو يمكن أن يسلموا بذلك، فقد اعتمدوا على "سذاجتهم" المتوقعة، لتخطيط بقاء بريطانيا في مصر والسودان معاً أو تغرق مصر في السودان فلا يمكنها إنجاز عملية التحرير. معنى الموقف المصري تجاه السودان ساعتها؛ أن الذاكرة الوطنية هي التي تفاعلت وأن حق تقرير المصير هو من الحقوق الثابتة في ذاكرة الشعوب، وهذا ما استدعى أن ييسر الحكم القائم في القاهرة استمرار عمليات الكفاح المسلح في منطقة قناة السويس كلها، ومن هنا كانت التحالفات الوطنية نفسها- وإن أعيد تشكيلها بطريق أو بآخر لخدمة هذا الغرض- كانت تحالفات وطنية ديمقراطية عريضة بالفعل منذ انتهت الحرب العالمية الثانية. وهذا الميراث لحق تقرير المصير في الاستقلال الوطني بأبعاده المحلية والإقليمية هو الذي بسط الأرضية لحق تقرير المصير أيضا في الثروة الوطنية والتي بدأت بتأميم قناة السويس. وأذكر شخصياً أنه في مطلع 1956، حين توجهت وأنا طالب جامعي، إلى الرابطة الأفريقية بالزمالك، حيث ينشط العائدون من تجربة السودان مع عدد من الشباب الأفارقة، خاصة من بلدان حوض النيل، لبناء صورة مصر الأفريقية، مع شباب كافحوا للوصول للدراسة في مصر... وحضرت معهم فترة تأميم قناة السويس والأحداث التي تبعتها، ورأيت كيف أن الفرحة في أعينهم لحدث التأميم، ليست لمجرد مشاركة شعب يعايشونه، وإنما اقترنت عندهم أيضاً بإحساس التوقع والأمل في أن تعود لشعوبهم ثرواتها التي كان الجميع يتحدث عنها في أنحاء القارة. ولم يمض عامان على الحدث الكبير وتصفية آثار العدوان الثلاثي لصالح استمرار ثورة يوليو، حتى توافد على القاهرة عشرات من ممثلي حركات التحرير الأفريقية، وليصبح حدث التأميم وحرب السويس النبض الدائم للقاهرة الوطنية، العربية والأفريقية، على السواء. كان شعب الكيكويو في كينيا يناضل ضد الترحيل من أرضه الزراعية لإقامة خط السكك الحديدية من كمبالا حتى ممباسا، وليستوطن فيها آلاف البيض ممن تقوم ضدهم ثورة التحرير الوطني الشاملة في هذا البلد. وكان أبناء جنوب أفريقيا يقيمون أول تحالف وطني أفريقي من أجل حق تقرير المصير وفقا "لميثاق الحرية" الذي صاغته هذه القوى. ولم تُنل تلك الحقوق إلا باستمرار الكفاح من أجلها حتى عام 1994. وليس صدفة أن اثنين من أول مكاتب حركات التحرير الأفريقية بالقاهرة كانت لممثلي أحزاب من كينيا وجنوب أفريقيا، وقد لا تكون صدفة كذلك أنهما بلدا الاستيطان الأوروبي العنصري في ذلك الوقت. ذلك لأن الثروة المعدنية والزراعية، والتحرر من وجود المستوطنين، كانت تتمثل كلها في هذين البلدين أساساً. لم تكن سيطرة شعب على مصيره السياسي يمكن أن تعزل عن سيطرته على ثروته الأساسية، وقد كانت في مصر أحزاب وقوى سياسية ترى أنه لا معنى لتأميم قناة السويس، وأنه يكفي المطالبة بالاستقلال السياسي الذي سوف يدعم التعاون مع القوى الكبرى في المجال الاقتصادي. ونذكر جميعاً مجموعات من هذا النوع السياسي تقدمت إلى القيادة المصرية أثناء حرب السويس 1956 لتثنيها عن موقفها في هذا الاتجاه، بل كانت بعض عناصر القيادة نفسها ترى هذا الرأي. لكن الحركات الوطنية الكبرى، لا يمكن أن تجعل من المطالب الكبرى مجالاً لرؤية أو مساومة أفراد أو قوى عفا عليها التاريخ، ولذا استمر الموقف الوطني المصري خاصة بعد ما شهده من فورة شعبية على المستوى الوطني والعربي فاقت تصور القيادة الشابة. لم تكن تلك القيادة تتصور أنه يمكن بسهولة فتح مخازن السلاح أمام أبناء الشعب لتتسلح قواه الشابة من أبنائه وبناته في معسكرات التدريب وقتئذ، ثم تعيد الجماهير السلاح بعد تحقق النصر كي تمضي الحياة بيسر في عملية بناء جديدة اقتصادية وسياسية، بما استقر في الذاكرة الوطنية مرتبطا بتأميم قناة السويس. لذلك فإني دائما ضد تصنيف أولويات اهتمام ثورة يوليو بالشكل الميكانيكي، بصيغة الدوائر الثلاث: العربية، الأفريقية، والإسلامية، ثم يرد الحديث بعد ذلك عن دائرة رابعة لعدم الانحياز. فالأساس في تقديري هو منطلق التحرير الوطني أولاً، تحرير سياسي وتحرير اقتصادي، وقد مضت الثورة المصرية في هذا المسار، فكان اتصالها بآسيا في باندونج، ثم بأفريقيا في مؤتمرات الشعوب الأفريقية الآسيوية، ليأتي عقب ذلك اتجاه بناء حركة الوحدة العربية، وما تلاه من الوحدة المصرية السورية. وجدير بالذكر هنا أن حدث تأميم قناة السويس، المرتبط بتحرير السياسة والثروة الوطنيتين، هو الذي فجر التجربة التضامنية المبكرة والفريدة في نموذجها ممثلة في انتفاضة الشعب العربي ضد الاستعمار ومصالحه العالمية، وبتلك اللغة التي تبدو فجة في هذه الأسابيع من عام 2006! قام عمال الموانئ العرب بمقاطعة سفن الشحن الأوروبية تضامناً مع الشعب العربي في مصر... ولعلها كانت من مفاجآت حدث كبير محفور في الذاكرة الوطنية العربية مثل حدث تأميم قناة السويس نفسه!