يبدو الأمر هنا أقرب إلى مرض اضطراب الذاكرة, حيث تتراءى للمريض الأشياء وكأنها استعادة لشريط من الأحداث شاهده من قبل! فلبنان يحترق مجدداً، وها هي إسرائيل تخوض حرباً ضارية جديدة ضد المقاتلين والمتشددين العرب. وتلك طائراتها ومقاتلاتها تقصف العاصمة بيروت، بينما يهرول الآلاف من اللاجئين والفارين من جحيم الحرب والنزاع إلى بر الأمان أينما وجد. وبين هذا وذاك تواصل كل من دمشق وطهران مناوراتهما وممارسة دورهما الخفي فيما يجري. فهل نحن في عام 1983؟ كلا بالطبع لأن كل القرائن والأدلة تشير إلى أننا في عام 2006، رغم أن كل ما يجري الآن كان قد حدث بحذافيره تقريباً في عام 1983، حينها كانت الولايات المتحدة الأميركية تسعى جاهدة من أجل التوصل لحل ما للنزاع. وضمن تلك الجهود كان قد جرى إقناع الزعيم ياسر عرفات ومقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية التي يتزعمها، بمغادرة بيروت بحراً. بيد أن القوات الإسرائيلية كانت تحتل الجنوب اللبناني، بينما توغلت سوريا في شمال شرقي لبنان واحتلته من جانبها. وكان قد جرى تكليف وزير الخارجية الأميركية وقتئذ جورج شولتز -الذي كنت ناطقاً رسمياً له- من قبل الرئيس الأسبق رونالد ريجان بمهمة إخراج القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان. وفي المقابل فقد تم تكليف المملكة العربية السعودية ودول إقليمية أخرى بمهمة إقناع السوريين بالانسحاب من شمالي لبنان. وكان الأمل معقوداً على أن تتاح فرصة للازدهار والنمو في لبنان، على إثر خروج القوات الأجنبية من أراضيه وتخليصه من وطأة الاحتلال. لكن ما تبين لشولتز وفريقه، هو أن الأمر لم يكن أقل من رحلات جوية مكوكية لا تنتهي بين تل أبيب وبيروت، تصحبها رحلات جانبية إلى كل من دمشق وعمان والرياض. وكانت المفاوضات الرئيسية التي أجريناها مع الرئيس أمين الجميل، والذي خلف شقيقه القتيل الرئيس الأسبق بشير الجميل، وكذلك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجن، فضلاً عن وزراء خارجية كلتا الدولتين ومساعدي الرئيسين ومستشاريهما. غير أن المفاوضات نفسها شملت كلاً من الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، والعاهل الأردني الملك حسين ونظيره السعودي فهد بن عبد العزيز. وقد حدث أكثر من مرة أن تنقلنا جواً بين العاصمة والأخرى في اليوم الواحد. وما أتعبها تلك من دبلوماسية مهلكة ومفعمة بالدراما والإثارات. ومما حدث لنا أثناء إقامتنا في منزل السفير الأميركي في بيروت، أن قصفت الفصائل اللبنانية المتقاتلة سقف المنزل، مما دعا الرئيس ريجان إلى مهاتفة شولتز وتنبيهه إلى خفض رأسه مخافة جزه بأحد الصواريخ! وفي نهاية الأمر وافقت إسرائيل على الانسحاب من الجنوب اللبناني، تاركة ذلك البلد لشق طريقه العسير والمحفوف بالمخاطر نحو الديمقراطية والاستقلال من النفوذ الأجنبي. ولكن الذي حدث بعد مضي 23 عاماً على تلك الفترة، هو تجدد المواجهات ودوامة العنف نفسها بين "حزب الله" وإسرائيل، على إثر مهاجمة الأخير لإسرائيل وقتل واختطاف اثنين من جنودها مؤخراً. وفي ذات الوقت واصلت طهران مدها لـ"حزب الله" بالأسلحة والصواريخ، في حين تواصل دمشق ممارسة دورها في تمرير تلك الأسلحة إلى "حزب الله" عبر حدودها وأراضيها. وفي استجابة منه لهذه التطورات الخطيرة، دعا الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان إلى تكليف قوة دولية أكبر من تلك التي ظلت مرابطة في جنوبي لبنان منذ عام 1948. غير أن هناك معضلتين رئيسيتين تحيطان بتنفيذ هذا المقترح الدولي؛ أولاهما أنه يجب أن يسبق نشر قوة دولية بهذه الصفة، وقف لإطلاق النار، لكنه شرط يبدو بعيد المنال حتى هذه الساعة، أما ثانيتهما فتتلخص في أن تجارب القوات الدولية التي تنشرها الأمم المتحدة لحفظ السلام، عادة ما تكلف بمهامها في أعقاب هدوء الأوضاع وتوصل الأطراف المتقاتلة إلى مرحلة من الإنهاك والاستنزاف الحربيين. ولذلك فهي لا تسلح عادة بما يؤهلها لوقف قتال نشط دائر بين خصمين شرسين وجيدي التسليح، مثلما هو حادث الآن في لبنان بين إسرائيل و"حزب الله". وكما دلت التجربة البلقانية فإن كان لهذه القوة الدولية أن تضع حداً للحرب المستعرة في لبنان, فإن عليها أن تتسلح بالدبابات والطائرات الحربية والمدفعية والعتاد الحربي الثقيل، وأن تتشكل هذه القوة من حلف "الناتو" وليس من قوات الأمم المتحدة، نظراً لارتفاع القدرات القتالية الحربية لـ"الناتو". وإنه لمن المشكوك فيه أن تتحمس أو يجوز للولايات المتحدة الأميركية أن تشارك في قوة دولية كهذه. ولأسباب عسكرية وسياسية معلومة، فإنه لا يجوز لأميركا أن تكون طرفاً في أي نزاع إسرائيلي عربي جديد. وللأسباب السياسية عينها، فإنه لمن الضروري توخي الحيطة والحذر في اختيار عناصر القوة الدولية المقترحة لحفظ الأمن في الحدود اللبنانية الجنوبية. على أن الحل الحقيقي والجذري للأزمة اللبنانية الحالية يكمن فيما سعى وزير الخارجية الأسبق جورج شولتز إلى تحقيقه قبل 23 عاماً. ويتلخص ذلك المسعى في نزع أسلحة "حزب الله" وتفكيك مليشياته العسكرية. فرغم الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، فإن هذا الحزب واصل بسط سيطرته على ذلك الجزء واستمر في تهديده المستمر لأمن إسرائيل، في حين واصلت الأسلحة والصواريخ تدفقها إليه من طهران عبر الحدود السورية. وهذا هو الوضع الواجب تصحيحه بكافة تعقيداته وعناصره الثلاثة هذه. جون هيوز مساعد وزير الخارجية للشؤون العامة في إدارة ريجان ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"