إن المرء ليتعجب متسائلاً من أي كوكب حلت علينا وزيرة خارجيتنا كوندوليزا رايس, وهي تعرب عن فكرتها الغريبة تلك, الداعية إلى إنشاء قوة دولية تتولى حراسة الحدود اللبنانية الجنوبية, دون أن تكلف الوزيرة نفسها مشقة الذهاب إلى دمشق, أو محاولة إشراك سوريا في خطوة مهمة كهذه! من جانبي فقد تلمست مواقف وردود أفعال اثنين من المسؤولين السوريين على الأقل إزاء هذه الخطوة التي طرحتها "رايس". وكان تعليقهما استخفافاً بالفكرة كلها والتقليل من شأنها على النحو التالي: أتذكر ما حدث عام 1983, عندما حاولت إدارة ريجان فرض معاهدة إسرائيلية الطبخ والتدبير على لبنان غير آبهة بالإرادة السورية؟ وبما أني كنت هناك وقتها فكيف لي أن أنسى ما حدث: فقد أقدم لحظتها حزب الله –مدعوماً من سوريا أو إيران- على إبراز عضلاته القتالية وعمد إلى تفجير السفارة الأميركية في بيروت وكذلك نسف ثكنات قوات "المارينز" المرابطة في لبنان, إضافة إلى هجومه على قوة حفظ السلام الفرنسية الموجودة حينها. وبعد فهل لنا أن نشرك سوريا في هذه القوة الدولية التي نريد نشرها في الجنوب اللبناني؟ وهل لنا أن نشرخ التحالف ما بين دمشق وطهران؟ لست أدري, غير أن المناقشات واللقاءات التي أجريتها خلال زيارتي هذه للعاصمة السورية دمشق, تشير إلى الصعوبات البالغة المحيطة بتحقيق أي من هذين الهدفين, دون أن يعني ذلك استحالتهما أو أنهما لا يستحقان المحاولة. ويقيناً فإن كليهما لمن الأهمية الاستراتيجية بمكان. والسبب أن دمشق هي الجسر الواصل ما بين "حزب الله" وطهران. وإن كان لنا أن نخطو نحو تحقيق أي من الهدفين, فإن ذلك يتطلب بذل جهد مضن في الحوار الطويل المعقد والرفيع المستوى مع المسؤولين السوريين. لذلك فإني لأتعجب لقول "رايس" إنه يمكن التعامل مع سوريا عبر وسائل الدبلوماسية التقليدية العادية! فهل نسيت "كوندي" أننا سحبنا سفيرنا من دمشق وأن أفراد البعثة الدبلوماسية الأميركية لا يجوز لهم التخاطب والتعامل إلا مع مدير المراسم بوزارة الخارجية السورية, وفي المقابل فقد جرى عزل وتهميش السفير السوري في واشنطن. ثم هناك سؤال آخر ملح: هل يتسم النظام السوري بالوحشية والبطش؟ نعم بالطبع, وفيما لو أراد فريق بوش خوض حرب جديدة مع هذا النظام فإني لأتفهم ذلك جيداً. غير أن هذا لا ينفي حقيقة أن عزل واشنطن لدمشق لا يخيف النظام ولا يهز فيه شعرة واحدة. ولنذكر أن الاقتصاد السوري لا يزال يشهد نمواً قوياً ملحوظاً بسبب ارتفاع أسعار النفط العالمي. وعليه وبسياساتنا هذه القائمة على عزل سوريا, إنما نجد أنفسنا إزاء أسوأ ما يمكن تصوره في هذا العالم: نظام معاد لنا ولا يخشانا في ذات الوقت. فهل لنا أن نكون أكثر عقلانية وواقعية في لبنان؟ فقد أقدم "حزب الله" على خطوة رعناء بمهاجمته واستفزازه لإسرائيل. وإنه لعار أي عار على "حزب الله أن يجلب كل هذه الكارثة والخراب على الشعب اللبناني, جراء زرعه "مقاتليه الأبطال" في أوساط المدنيين اللبنانيين. وعلى رغم فهمي لدوافع ورغبة إسرائيل في إلحاق أقصى ضرر ممكن بالقدرات الصاروخية لـ"حزب الله", فإن علينا أن نذكر أنه ليس في إمكان تل أبيب محو القاعدة الشعبية الشيعية العريضة التي تمثل نسبة 40 في المئة من إجمالي السكان اللبنانيين, بتكلفة باهظة الثمن لن تقدر عليها هي ولا حليفتها الولايات المتحدة الأميركية ولا جاراتها العربية. ومن المستحيل هذين اليومين أن يذهب المرء إلى مكان عام في الشرق الأوسط دون أن يشاهد بثاً تلفزيونياً متواصلاً لصور المذابح التي ترتكبها القوات الإسرائيلية في لبنان. وإن في ذلك ضرراً بالغاً بصورة إسرائيل والولايات المتحدة, وإيذاءً لعلاقتنا مع حلفائنا العرب. وبعد أن ألحقت تل أبيب بـ"حزب الله" ما ألحقت من دمار, فها قد حان الوقت الذي تعين فيه إعلان الوقف الفوري لإطلاق النار, وتبادل الأسرى والسجناء, ولاستئناف جهود ومساعي السلام, إلى جانب إسراع قوة دولية بمد يد العون للحكومة اللبنانية في حماية حدودها الجنوبية المشتركة مع إسرائيل. وهنا نعود إلى ذات السؤال الذي طرحناه آنفاً: هل لدمشق دور تؤديه في كل هذا؟ فالمعروف أن في سوريا أغلبية سنية لا تبدي ارتياحاً لهذا التحالف الوطيد بين بلادها وطهران الشيعية. بل إن ذات الشعور يخالج الكثير من المسؤولين السوريين أنفسهم. ولكن المشكلة أن طهران هي الصديق الوحيد الذي لا فكاك منه بالنسبة لدمشق على حد تعليق بعض المسؤولين السوريين. ولكن ما الذي تريده سوريا في لبنان على وجه التحديد؟ لا شيء سوى احترام مصالحها الأمنية هناك, واستئناف المحادثات الخاصة بهضبة الجولان. ولنذكر أن دمشق تساند حزب البعث العراقي المؤلف من المسلمين السنة. فهل تريد واشنطن فتح نيرانها على الجميع, وتحصل على كل ما تريد في ذات الوقت؟ وعليه فإنه لا سبيل لنشر قوة سلام دولية في الحدود اللبنانية الجنوبية, دون دعم دمشق ومساندتها لخطوة كهذه. ولعل من المفيد أن تحتفظ إدارة بوش لسوريا ببعض الجزر والعصي, وإلا فما مصلحة دمشق في أن تستقر الأوضاع في لبنان وبغداد, كي تدير الإدارة عينها على "تغيير النظام" السوري؟! توماس فريدمان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"