عَهَدَ رجل الإسعاف للصبي بمهمة العناية بأمه الجريحة وإبقائها مستيقظة. استعطف علي البالغ من العمر 12 عاماً أمه وهو يربت على خدها برفق ويشهق باكياً "ماما ماما لا تنامي". تنهدت الأم، ومقلتاها تغيبان تحت غطاء الرأس الأسود "أنا راح أموت". توسل بها علي "لا تقولي هذا ماما لا تقولي هذا" وانهار بدموعه على الأرض. على مسافة بضعة أمتار كانت خالته ملقاة على الرصيف بلا حراك، وشقيقتاه الصغيرتان ترتعدان ملتصقتين ببعضيهما، وقد اختلطت دماؤهما، وفي الباص الذي كان ينقل الأسرة من القرية في الجنوب، جثث جدّة علي واثنان من أفراد الأسرة، وقد اخترقه صاروخ إسرائيلي. عندما رفع عمال الإسعاف أمه على النقالة إلى سيارة الإسعاف صرخ علي "الله معك ماما". مدت الأم ذراعها السالمة تتلمس وجهه. صور علي بوجهه اللبناني الجميل المدّمى، وأشلاء أفراد أسرته المتناثرة التي نقلتها أجهزة الإعلام مع مئات الصور الأخرى لمذابح لبنان، حطمت قلوب ملايين الناس حول العالم. وإذا كانت هناك سوابق للمذابح التي ترتكب حالياً في لبنان وفلسطين والعراق وأفغانستان، فلا سابقة قطّ للغفلة عن خلفية المذابح. ولا يملك المراقب السياسي إلاّ أن يردد، كالمعلم المستميت؛ كلمة النفط، ويتهجاها حرفياً "النفط النفط النفط... ألف لام نون فاء طاء"! في لبنان قامت واشنطن بتحريك بيدق إسرائيل على رقعة الشطرنج العسكرية، ردّاً على خسارتها أمام طهران التي هزمتها في العراق من دون أن تطلق رصاصة واحدة. لكن قواعد اللعب على رقعة النفط العالمية مختلفة تماماً، وقد تابعنا نقلاتها في قمة مجموعة الدول الثماني الكبرى التي استهلت أعمالها مع بدء العمليات الحربية في لبنان. ساهم في القمة التي عُقدت في مدينة سان بطرسبرغ بروسيا، زعماء دول مجموعة الثمان، وهي اليابان وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة وكندا، كما حضرها ممثلو دول من خارج المجموعة، كالصين والهند. غياب العرب والمسلمين عن القمة كان، كحضورهم فيها، طاغياً. ففي حين لم تحضرها أي دولة عربية، أو مسلمة طغت على بياناتها وأخبارها ما سُمّي "الأزمة اللبنانية" أو "مشكلة الشرق الأوسط"، وتصدّر أجندتها النفط الذي يملك العرب والمسلمون ثلثي احتياطياته العالمية. واختارت روسيا عنوان "أمن الطاقة" للقمة التي استضافتها لأول مرة. وهو العنوان المناسب في المكان المناسب. فروسيا تتصدر الآن الاحتياطيات العالمية من الغاز الطبيعي، وتُعتبر ثالث بلد في العالم باحتياطياتها النفطية المؤكدة. والنفط هو المتغير الصعب في موازنات الطاقة العالمية، حيث يمكن استبدال الغاز الطبيعي والفحم بأنواع الطاقة النووية والمتجددة، في حين لا بديل للنفط في أسعاره الرخيصة وسهولة تخزينه ونقله وتوفير كميات كبيرة منه عند الطلب في فترة زمنية محددة. ولا تقتصر أهمية النفط على استخدام مشتقاته في مئات ملايين السيارات والمحركات التي تُطرح سنوياً في الأسواق، بل لأن جميع أنواع ما يُسمى "الطاقة المتجددة" و"البديلة" لا تُنتج المادة الأولية الكافية لإعادة إنتاج نفسها. وقود الإيثانول، المستخرج من نبات الذرة، الذي جرى الحديث عنه في القمة، يحتاج إنتاجه إلى طاقة لتشغيل محركات زراعته وحرثه وحصاده وتسميده، ومعالجة محصوله، لتحويله إلى زيت وقود. وينبغي أن يكون هناك فائض من منتوج الذرة للعام الماضي لإدامة هذه العمليات، إضافة إلى بناء محركات تقوم بذلك، وتدعم القوة البشرية العاملة فيها. وأشارت التوقعات السائدة في قمة سان بطرسبرغ إلى صدمة نفط قادمة، حسب تقدير "الوكالة الدولية للطاقة". لمواجهة ذلك أعلنت القمة تأييدها لما يُسمى "ميثاق الطاقة"، وهو اتفاق يهدف إلى دمج صناعة الطاقة في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق بنظيرتها في أوروبا. وأكدّ البيان الختامي لزعماء "مجموعة الدول الثمان" على ضرورة توفير كميات كافية من النفط لسد حاجة الأسواق، ولم يتناول أنواع الطاقة البديلة، بما في ذلك الطاقة النووية والشمسية وطاقة الرياح والكتلة العضوية. وشددّ زعماء "مجموعة الثمان" على سياسات تشجيع الاستثمار النفطي، ورفع كميات الإنتاج لمواجهة "الأسعار المرتفعة والمتقلبة" التي بلغت خلال القمة 75 دولاراً للبرميل. وتوقع البيان الختامي ارتفاع الطلب على ما يُسمى الوقود الأحفوري، كالنفط والغاز الطبيعي والفحم، بنسبة 50% عن مستوياته الحالية خلال العقدين القادمين، وسيشكل الوقود الأحفوري 80% من استهلاكات الطاقة عام 2030. ولعل ذلك يكشف رقعة الشطرنج العالمية الجديدة للنفط واللاعبين الأساسيين فيها، والتي يمكن الاستدلال على معالمها باستخدام الزعيم الروسي بوتين مرات عدة عبارة "شركاؤنا" عند الحديث عن إيران. وحين وجه له صحفي أميركي سؤالاً مزدوجاً عن موقفه من انتشار السلاح النووي، وتقييمه للعلاقات الروسية الأميركية، أجاب بوتين: "نحن لن نشارك في أي حرب صليبية، أو أحلاف مقدسة". يعبر هذا التصريح عن قوة الطاقة المشتركة التي يملكها "الشريكان" روسيا وإيران. فهذان البلدان المتجاوران جغرافياً يملكان نصف الاحتياطيات العالمية من الغاز الطبيعي، وتعادل قوتهما المشتركة في موازنة الطاقة العالمية ضعفي قوة المملكة العربية السعودية، حسب تقدير فلينت ليفيريت المدير السابق لقسم شؤون الشرق الأوسط في "مجلس الأمن القومي" في واشنطن. ويعيد دخول الصين، كطرف ثالث في تحالف الطاقة الروسي الإيراني تصميم رقعة الشطرنج العالمية، ويجعلها لعبة متعددة الأقطاب. فالصين المتعطشة للنفط والغاز تملك استثمارات مالية كافية لتغطية نفقات تحديث صناعة النفط الإيرانية التي تقدر بأكثر من 150 مليار دولار على مدى 25 سنة القادمة. وروسيا التي طوّرت أكبر عملاق لصناعة الغاز في العالم "غازبروم"، قادرة على تأمين التكنولوجيا اللازمة لذلك. ولن تنتظر الأقطار الأوروبية الإذن من واشنطن للدخول كشركاء في ما يبدو أكبر صفقة للطاقة في القرن الحادي والعشرين. ألمانيا شرعت ببناء أنابيب تحت مياه بحر البلطيق، وتسعى شركات فرنسية ونرويجية، وحتى أميركية إلى عقد صفقات مع شركة صناعة الغاز الروسية "غازبروم" لاستثمار مستودع الغاز العملاق في منطقة "شتوكمان" فوق القطب الشمالي. ويعزز التعاون الصيني الروسي في تطوير موارد الطاقة الإيرانية الموقع الاستراتيجي للبلدين في مواجهة الولايات المتحدة، حتى في منطقة الخليج العربي. أقرّ بذلك فلينت ليفيريت الذي انتقد فشل واشنطن في عقد "صفقة عظمى مع طهران"، صفقة من شأنها أن لا توقف تطوير قوة طهران النووية فحسب، بل تضمن لواشنطن مكانتها القيادية في الشرق الأوسط. وهذا غير ممكن برأيي، لأن واشنطن تتحرك على رقعة النفط العالمية، كالفيل في حانوت خزف. ويعود تورطها في مذابح لبنان وفلسطين والعراق وأفغانستان إلى فشل "عضوي" في اللعب وفق قواعد الشطرنج العالمية الجديدة. والقواعد، حسب المثل الروسي "لم تكتب للحمقى، وإذا كُتبت لهم فلن تُقرأ، وإذا قُرئت فلن تُفهم، وإذا فُهمت، فبشكل مغلوط"!