التقيتُ صدام حسين في مؤتمر "الدسّ الشعوبي" الذي عُقد في بغداد في منتصف الثمانينيات، مع جمع من الإعلاميين العرب، وكان قد أعلن في ذلك المؤتمر، عن "الكيماوي المزدوج"، وشاهد المؤتمرون عينات من ذلك بيد صدام حسين. كما استضفت بعضاً من وزراء الخارجية- وزير الخارجية في التسعينيات صاحب مصطلح (العلوج) وزير الإعلام قبل سقوط بغداد بساعات- ووعدني بلقاء في كوالالمبور لكنه تهرّب مني، ذلك هو (الصحاف). ليس بيني وبين العراق إلا كل الحب والتوق نحو عراق جميل... كما شاهدته لأول مرة عام 1977، حيث قضيت أسبوعاً لعمل برنامج تلفزيوني عن ذلك البلد الجميل أمس، والجريح اليوم. زادني تعلق بالعراق زميل دراسة قضيت معه وأسرته أكثر من ثلاثة أعوام في بريطانيا... وكذلك زميل آخر في قطر يحتفظ بذاكرة ثقافية ثرية في الأدب والرواية والسرديات. لا خلاف عندي مع العراق أو العراقيين. الكتب التي صدرت في المنافي عن ممارسات النظام في العراق، كوّنت لديّ صورة قاتمة عما كان يجري في ذلك البلد... والكتب كثيرة منها رواية "الجادرجي" ورواية "كنت ابناً للرئيس" ورواية "سكرتيرة صدام" وغيرها. ربطتُ بين ما جاء في تلك الروايات، وبين ما سمعته "في المنافي" من بعض العراقيين حول حقيقة الأوضاع في بلدهم. وربطتُ ذلك أيضاً بالمغامرات السياسية التي قام بها النظام، والاجتراءات العسكرية سواء على إيران أو الكويت! وكيف كان مخطط غزو الكويت بداية لاحتلال الخليج بأسره. ربطتُ أيضاً المدَّ الناصري الذي ساد المنطقة العربية في الخمسينيات والستينيات، وكيف استطاع الإعلام المصري "تجييش" الجماهير العربية للثورة على أوضاعها وتثبيت الوعي القومي، رغم أن ذلك لم يحقق شيئاً على أرض الواقع، وصحا أهل الخليج على كابوس غزو الكويت، وسقوط "رسالة الأمة الخالدة". واليوم، ونحن نشاهد محاكمات رموز النظام العراقي، نستغرب من الأقنعة التي يلبسها هؤلاء المُحتجزون في القفص. فأخ الرئيس غير الشقيق- مسؤول أكبر جهاز استقصائي في الدولة العراقية السابقة- يحاول أن ينفي كل التهم التي بحوزة الشهود والمحكمة عن سلبيات وممارسات النظام القمعية. وطارق عزيز أيضاً ينفي علاقة النظام بمجزرة الدجيل، ورَبَط ربطاً غير مُتقن بمحاولة اغتياله في (المستنصرية)! ولم تسأله المحكمة لماذا كانت المحاولة الأولى في الدجيل ضد صدام، ولماذا كانت المحاولة في المستنصرية ضده، إذا كان صدام عادلاً ومحبوباً من الشعب؟ ويدافع عن برزان بأن الاستخبارات غير مسؤولة عن القضية، فمن جرّف البساتين؟ وهل يجرؤ أحد في ظل ذلك النظام على القيام بذلك دون توجيه من أحد في الحكومة؟ ثم ما أهمية منطقة الدجيل للحكومة، عندما يتم تجريفها وتعويض الأهالي عن ذلك؟ هل هي منطقة استراتيجية أمنية، أم منطقة ثروات طبيعية؟ وبأسلوب مسرحي مُتقن، يعرض طارق عزيز بأن رجال حماية الرئيس (صدام)، لم ينزلوا للدفاع عنه بل أحيل الملف إلى الأمن العام! هل يريد طارق عزيز أن يقول إن محكمة عراقية حكمت بقتل العراقيين الأبرياء (180 شخصاً) دون تهم؟ وإذا ما تجاوزنا قضية الدجيل، والتي إن ثبتت على المتهمين، فإن حكم الإعدام بانتظارهم، فإن آلام العراقيين كانت أكثر من ذلك بكثير، ومنها بوليسية النظام، حتى أن أحد العراقيين أسرّ لي بأنه يخاف أن تكون زوجته ضمن الاستخبارات، بل إنه وزوجته يخافان من أبنائهما الصغار، حيث من المحتمل أن تكون السلطات جندتهم للتجسس على والديهم. لذلك- يقول العراقي- نحن لا نتحدث عن الرئيس ولا عن الحكومة في حضور الأبناء. وذات الشيء ينطبق على الزوجة التي تخشى أن يكون زوجها جاسوساً عليها، وبذلك تتحاشى الحديث عن صدام أو رجاله! هذه هي إحدى "شمائل" العراق العظيم الذي بناه حزب البعث. وتتجلى البوليسية لدى النظام ليس ضد العراقيين فحسب، والدلائل كثيرة حول ممارسات ابنَي صدام (عدي وقصي)، إلى خرق النظام العراقي للبروتوكول العام. ولقد شهدت بعيني وصول 3 طائرات جمبو 747 إلى مطار تونس، قرطاج، أثناء القمة العربية، حيث أحضر صدام طائرة بمدرعات وثلة من الحرس، ولم ينزل مع الرؤساء العرب في ذات الفندق، وكان ذلك التصرّف مثار استياء لدى الجانب التونسي الذي وفّر الحماية القصوى للزعماء العرب. اقتصادياً، لقد هبط سعر الدينار العراقي إلى أدنى مستوياته، وهذا ليس بحكم الحظر الذي مورس ضد العراق، بل لأن السياسة النقدية- حتى قبل الحظر- لم تكن سليمة، ولعلنا ندرك حب صدام للعظمة، وإغداقه الأموال على الإعلاميين ورؤساء التحرير، وصفقة المرسيدسات التي وهبها-من أموال اليتامى العراقيين- معروفة في الأوساط الإعلامية! ناهيك عن استقطابه القائمين على بعض الفضائيات، ما بعد التسعينيات، واستخدامهم أبواقاً للدعاية الصدامية. والعراق بلد النفط والغذاء، يعيش حالة فقر مدقع، ويتشرد أبناؤه في البلدان الأخرى دون حق. أذكر في عام 1990، كان هنالك مؤتمر قمة عربي، وكان الحليب و(الكيمر) المشهورة به بغداد ينفد من فنادق الدرجة الأولى! كيف يحدث هذا في بلد من أغنى بلاد العرب؟ وماذا حققت الآلة العسكرية للعراق، أو للأمة العربية؟ كم خسر العراق في حرب إيران، ثم عاد صدام ورضي بالقليل، ثم كم خسر العراق في غزو الكويت، وكانت القنابل والأسلحة العراقية (في صناديقها) مرمية على طول جانبي الطريق (المطلاع) من الجهراء إلى صفوان؟ أليست هذه جريمة تحتاج أن تُضاف إلى قائمة جرائم النظام! أين جيش العراق "العظيم" يوم دخول القوات الأميركية إلى ساحة الفردوس؟ أليست هذه "خيانة عظمى" مسؤول عنها النظام؟ وأين بطل القادسية، حيث بدا ابناه أشرف بكثير عندما قُتلا وهما يردان على نيران الأميركان، بينما يلوذ هو (القائد) بحفرة في منطقة مهجورة بعيداً عن "ساحة الوغى"! أين علماء العراق الذين فرّوا إلى أوروبا للنجاة من الطغيان... أين شعراء العراق وفنانوه؟ وأين حقيقة الإعلام الذي مارس الكذب طوال حكم الرئيس؟ انظروا كم فضائية اليوم في العراق، وكم صحيفة في العراق؟ وكم من التعددية؟ بعد أن كان العراقي ينهض من نومه ليجد صدام في التلفزيون، ويتناول إفطاره ليجده على الجريدة، حتى لو لم يكن لديه خبر، ويخرج إلى السيارة ليجده في الراديو، ويخرج إلى الشارع ليجده في جدارية على طول الطريق، وبلباس مختلف (عربي- كردي- بغدادي) كي يجذب الجميع؟ وإذا كانت تهمة الدجيل لوحدها أخذت شهوراً، فما بالكم بقضايا التعذيب، وأحواض الأسيد، والأسرى الكويتيين المقتولين عمداً، وضحايا انتفاضة الجنوب! القائمة طويلة جداً... والتهم واضحة على عدم سويّة النظام... وما الحلقات التلفزيونية الحالية سوى مقدمة، ولكم موعد مع الكذب، وعشرات النسخ من "جوبلز"!