لن أدخل في المناقشات الجارية حول من أطلق الطلقة الأولى "حزب الله" أم إسرائيل التي أعدت بشكل مسبق خطتها لضرب لبنان. أريد أن أركز على المشهد غير المسبوق والذى يتمثل في العدوان الإجرامي الذي ترتكبه يومياً الدولة الإسرائيلية العنصرية ضد شعب أعزل، ولا يمتلك قوات مسلحة تساعده على ردع المعتدي. على شاشات التليفزيون يشاهد العالم كله من أقصاه إلى أقصاه، الطائرات الإسرائيلية وهي تضرب بشكل مخطط البنية التحتية اللبنانية، الجسور والكباري والطرق، وكذلك المطار والموانىء ومحطات التليفزيون. ليس ذلك فقط ولكن إجبار سكان على الهجرة بقصف قراهم وترويعهم. يتم كل هذا في غيبة تامة لاعتراض الدول الغربية على مسلسل الجرائم ضد الإنسانية الذي يوجه إلى لبنان يومياً. بل إن مؤتمر قمة الثماني الكبار في بيانه لم يدن العدوان الإسرائيلي، وتبنى المطالب الإسرائيلية التي تريد سحق المقاومة اللبنانية والقضاء على "حزب الله". أما الولايات المتحدة الأميركية التي تدعي أنها المدافعة الأولى في العالم عن الديموقراطية وحقوق الإنسان، فقد أعطت لإسرائيل ضوءاً أخضر كي تستمر في عدوانها حتى تحقق كامل أهدافها في تدمير لبنان والقضاء على "حزب الله". كيف نفهم هذا السلوك الدولي المنحرف من قبل دول تزعم أنها تتصدر جبهة الحضارة المعاصرة، وتعتبر نفسها رمزاً للتقدم؟ وكيف تشل حركة مجلس الأمن الذي أناط به ميثاق الأمم المتحدة الحفاظ على السلم العالمي بعد أن استطاعت الولايات المتحدة تعطيل صدور قرار متوازن بوقف إطلاق النار والبدء في مفاوضات سياسية لحل الصراع، وذلك بعد أن وافقت عليه عشر دول وامتنعت عن التصويت أربع دول؟ لقد سبق لعصبة الأمم أن انهارت بسبب صراعات وانحرافات الدول الكبرى، وما نشهده اليوم ينذر بانهيار الأمم المتحدة، بعدما تبين عجزها التام عن وقف جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل يومياً ضد الشعبين اللبناني والفلسطيني من خلال حرب الإبادة التي تشنها ضدهما. الانهيار الفعلي للأمم المتحدة، والذي يحدث أمام أبصارنا، يدعو إلى تحالف فعال بين الشعوب المحبة للسلام، من خلال جبهة سياسية وثقافية يشارك فيها من الشرق والغرب كل الحريصين على إقامة عالم خال من الحروب، وتأسيس نظام دولي عادل ومتوازن. هناك عبارة تتردد كثيراً في أدبيات العلاقات الدولية، وتعبر عن حالة الفوضى السائدة، إذ تذهب إلى "أننا نعيش في عالم يفتقر إلى اليقين ولا يمكن التنبؤ بمساره". وتعكس هذه العبارة الاضطراب على مستوى التفكير الاستراتيجي الناجم عن سقوط النماذج التفسيرية القديمة، وسيادة الصراع بين نماذج جديدة لتفسير السلوك الدولي، لم يتح لأي منها النجاح في ملء الفراغ الذي حدث بسبب سقوط النماذج القديمة. ولو حاولنا أن نحصر هذه النماذج الجديدة لقلنا إنها ثلاثة هي: نموذج نهاية التاريخ، ونموذج الفوضى، وأخيراً نموذج "نحن والآخرون". ولا شك أن كافة المثقفين في أنحاء العالم قد تابعوا باهتمام أطروحة الكاتب الأميركى اليابانى الأصل فرانسيس فوكوياما حول "نهاية التاريخ". فى هذه الأطروحة يكاد فوكوياما أن يقيم احتفالاً فلسفياً تاريخياً بمناسبة انهيار الاتحاد السوفييتى، وسقوط التجربة الاشتراكية التي يراها بمثابة نهاية التطور الإيديولوجي في العالم، وتحول الليبرالية لتصبح هي النظرية الوحيدة التي ستقود العالم في مدارج التقدم. والليبرالية التي نصبها فوكوياما على العرش السياسي والفلسفي ليس أمامها أي منافس بعد سقوط الفاشية والشيوعية. أما الأصوليات الدينية والتيارات القومية فيراها مجرد تحديات ثانوية لأنها تفتقر إلى العالمية والشمولية. وليس هناك مجال للتفصيل في النظرية وردود الفعل عليها، وإن كان لابد أن نسجل أن فوكوياما راجع أفكاره بعد الانتقادات العميقة التي وجهت إليه، وأن الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية استخدمت نظريته كأساس لتدخلها السياسي في شؤون الدول النامية لتحويلها إلى الليبرالية والديموقراطية، بحكم أنها– كما قرر فوكوياما– هي النظرية الوحيدة التي وصلت للأفق الأسمى للتاريخ الإنساني. بعبارة أخرى استراتيجية "تغيير النظم السياسية" التي تطبقها الآن الولايات المتحدة الأميركية في العراق، وتريد تطبيقها في سوريا وإيران، تجد أساساً لها في نظرية نهاية التاريخ. وإذا كان نموذج "نهاية التاريخ" يصلح كتفسير جزئي لسلوك الولايات المتحدة باعتبارها القطب الأوحد والأعظم، فإن نموذج الفوضى هو الذي يصلح لتفسير عديد من الظواهر وسلوكيات الجماعات والدول في الوقت الراهن. وتقوم نظرية الفوضى على مسلمة رئيسية مفادها أن النظام الدولي يفتقد بالتدريج قدرته على حفظ السلام وإدارة علاقات القوة، وإنتاج نسق قيمي له قدرة على ضبط حركة الدول والجماعات المتعددة، السابحة في محيط المجتمع العالمي وفقاً لمعايير محددة وواضحة. وهناك جدل بين الباحثين يدور حول التساؤل عما إذا كانت الفوضى مرحلة انتقالية أم لحظة استثنائية في التاريخ؟ وهل تحمل بين جنباتها إرهاصات نظام عالمي جديد، أم أنها مرحلة طبيعية ستعيش معنا عقوداً طويلة؟ والفريق الذي يعتبر الفوضى مرحلة انتقالية يعتمد على عدة حجج أهمها أن النظام والاستقرار سمات أساسية للنظام العالمي، وما الفوضى العالمية إلا حالة مرضية سرعان ما تزول. بالإضافة إلى قناعتهم بأن النظام الدولي يحمل في طياته عناصر للضبط الذاتي. ولعل تجربة الحرب الباردة وتوازن الرعب النووي الذي سادها وأدى إلى الاستقرار النسبي حجة في صفهم. أما الباحثون الذين يرون أن الفوضى حالة طبيعية فهم ينطلقون من فكرة أساسية مبناها أن النظام العالمي لم يعرف أبداً الاستقرار بشكل مطلق. ولعل صعود وسقوط "عصبة الأمم" وقيام الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، والحرب الكونية الثالثة التي أشعلتها الولايات المتحدة الأميركية بغزوها لأفغانستان بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر بدعوى محاربة الإرهاب، والغزو العسكري للعراق بزعم أنه يمتلك أسلحة دمار شامل، وضرورة تغيير نظامه السياسي من نظام ديكتاتوري إلى نظام ديموقراطى... حجج جوهرية تؤيد أنصار نظرية الفوضى. وأصحاب نظرية الفوضى في العلاقات الدولية لديهم تشخيصات متعددة، وتفسيرات متنوعة لها. ومن أبرزهم المفكر المرموق إيمانويل فالرشتاين صاحب نظرية "النسق العالمي"، والذي يرى أن العالم سيشهد فوضى وصراعات دولية متعددة. ويرى أن الشعوب ستجد نفسها أمام ثلاثة خيارات عليها أن تحسم فيما بينها؛ هي خيار "الخوميني" أي رفض الإطار الثقافي الغربي، وتندرج تحت هذا الخيار كل الجماعات الإسلامية الراديكالية، وخيار "صدام حسين" الذي كان يسعى للمواجهة مع الغرب، والخيار الفردي الذي يتمثل في الهجرة إلى الشمال، بكل ما يترتب على هذه الهجرة من تصاعد العنصرية الجديدة، واتجاهات كراهية الأجانب، وإعادة إنتاج "المركزية الغربية"، والتي ترى في القيم الغربية معايير الحكم على التقدم والتخلف. وفي تقديرنا أن نموذج الفوضى هو الذي يعطينا تفسيراً موضوعياً لأسباب تأييد الدول الغربية للهجمة على لبنان، وامتناعها عن الإدانة الواضحة والصريحة لجرائم الحرب الإسرائيلية. غير أن نموذج الفوضى لا يكتمل بغير بيان نظرة الغربيين إلى أنفسهم ونظرتهم إلى غيرهم من الشعوب، أو بعبارة أخرى نظرة المنضوين تحت لواء "الإمبراطورية الغربية المتحضرة" إلى الشعوب الهمجية والبربرية. وهذا هو لب نظرية "نحن والآخرون" التي تستحق أن نعالجها بصورة مستقلة حتى تكتمل الصورة.