يتساءل الجميع ما إذا كان ثمة حل سياسي ممكن للحرب الأميركية الإسرائيلية الراهنة ضد لبنان. ومن المدهش حقاً أن البعض ينظر أو ربما ينتظر زيارة كونداليزا رايس للمنطقة باعتبارها بداية لمثل هذا الحل السياسي. يصطدم هذا الانتظار بحقيقة أن رايس ذاتها طرحت هدفاً سياسياً مستحيلاً إلى درجة أن ما قالته يشكك المراقبين في قدرتها وقدرة إدارتها وسيدها في البيت الأبيض على التقدير الصائب لما يجري وعلى إجراء حسابات سليمة, ومن ثم صياغة شعارات سياسية ومخارج دبلوماسية واقعية. فهي ترى أن "شرق أوسط جديد" يولد في خضم الحرب ضد لبنان, التي باركتها إدارتها, وهو ما يوحي بالانطباع أنها أتت لتقبض العائد السياسي أو على الأقل تحدد هذا العائد باعتباره شرطا لإنهائها. رايس تبني هذا التقدير على جانب واحد من الصورة. فلديها بالفعل ما تسميه إجماعاً دولياً, أو ما نسميه هيمنة أميركية شبه كاملة على المواقف الأوروبية ومواقف أهم الحكومات العربية. وبالفعل فإن الانكشاف الحقيقي والفاعل لـ"حزب الله" في هذه الحرب هو افتقاره شبه التام لاسناد دبلوماسي عربي ودولي. ورغم التعاطف الشعبي العربي شبه الشامل مع لبنان في محنته، ومع "حزب الله" في أدائه البطولي, فإنه لم ينتقل من المستوى العاطفي البحت إلى مستوى الضغط النشط والفاعل في الساحات السياسية العربية. ولكن هذا الجانب لا يكفي على الإطلاق لفرض "الحل" الأميركي الإسرائيلي, وذلك لأنه يتناقض ببساطة مع الواقع العسكري على الأرض, ومع الواقع السياسي في لبنان ذاتها. فكما تجمع مختلف التقديرات العسكرية الجادة على أنه حتى لو قامت إسرائيل باجتياح بري لجنوب لبنان، فلن يمكنها بسهولة القضاء على "حزب الله", وأنها ستدفع ثمناً باهظاً لهذا الاجتياح, وأن "حزب الله" سيتمكن في غضون فترة زمنية بسيطة نسبياً من تعويض خسائره المحتملة ومعاودة شن الحرب ونزف القوات الإسرائيلية نزفاً شديداً, بما يؤدي في النهاية إلى إحداث تغييرات منهجية وربما هيكلية في الداخل الإسرائيلي. وبتعبير آخر, يمكن القول بثقة بأنه ليس في موازين القوى العسكرية الراهنة أو المحتملة في المديين المباشر والوسيط، ما يجبر "حزب الله" على قبول نزع سلاحه, وإزاحة كوادره بمسافة بعيدة عن المنطقة الحدودية, وإعادة الأسيرين دون مبادلة للأسرى, وقبول نشر قوات دولية أو أوروبية أو متعددة الجنسية كحاجز قادر على القتال في المناطق الحدودية. فهذه الأفكار العقيمة التي يفترض أن تكون قابلة الشرق الأوسط الجديد بمصطلح رايس تعني أن "حزب الله" قبل الانتحار العسكري الآن وفي المستقبل, وبقبوله ذالك يكون قد تحمل المسؤولية بالفعل عن تدمير لبنان بل واحتلاله فعلياً بقوات أوروبية أو دولية. فلماذا يقبل "حزب الله" بهذا الحل العبثي وهو الذي يملك ما هو أكثر بكثير من مجرد الشحنة الإيمانية التي تدعوه للقتال عن طيب خاطر إلى الأبد لو تطلب الأمر؟ يبدو هذا السيناريو إذن مستحيل وغير قابل للتحق. ومعنى ذلك أنه لو أصرت رايس وسيدها في البيت الأبيض ووراءهما إسرائيل على أن تشهد ولادة الشرق الأوسط الجديد بهذه السرعة وسط خرائب لبنان, فهي لا ترتكب خطأ جسيما جداً في الحساب السياسي فضلاً عن الحساب الأخلاقي فحسب، بل تكون أيضاً قد وضعت نفسها في مقام السخرية لجهلها بأبسط معطيات الواقع في لبنان وفي المنطقة ككل. فإن لم يكن من الممكن لأميركا وإسرائيل أن تفرضا الحل الذي تريدانه في لبنان, فهل يمكن لـ"حزب الله" أن يفرض حلاً معاكساً؟ هذا بدوره مشكوك فيه على المدى القصير. فلا يمكن الاستهانة بأهمية وثقل الاعتبارات السياسية والدبلوماسية الدولية والعربية في المدى المباشر. فـ"حزب الله" لن يحصل على وقف فوري لإطلاق النار, ولا على تبادل للأسرى, ولا على حلحلة جادة للقضية الفلسطينية بما يحسب له, ولا على تعويضات عن الدمار الذي ألحقته الآلة العسكرية والسياسية الهمجية الإسرائيلية بلبنان, لأن هذا كله يعني هزيمة إسرائيل وسقوط حكومتها الراهنة دون أن يكون هناك ما يجبرها على تجرع هذه الهزيمة وما يرتبط بها من تشجيع ثقافة المقاومة في فلسطين وفي العالم العربي. ولا تبدي إسرائيل أية مرونة كافية في الوقت الحالي, بل وتنتظر أن تحمل "حزب الله" مسؤولية إطلاق الاجتياح البري برفض أفكار رايس وزيارتها للمنطقة. فإذا كان الأمر كذلك فهل ثمة ما يدل على إمكانية حل سياسي ودبلوماسي للأزمة الراهنة؟ من الناحية النظرية يمكن لكل طرف أن ينتظر دخول عوامل جديدة في المعادلة الصعبة الراهنة. وهناك ثلاثة عوامل أساسية قابلة للتحريك: الأول والأهم هو الداخل اللبناني. فالتحالف الأميركي الإسرائيلي ينتظر انزلاق السياسة الداخلية اللبنانية إلى موقف مضاد وضاغط بشدة على "حزب الله", بتأثير المعسكر الموالي لأميركا في البلد, وما تشكله المحنة التي يشهدها الشعب اللبناني وحيداً وسط عزلة دولية وعربية مؤلمة. وبالمقابل ينتظر "حزب الله" أن تشكل هذه المحنة ذاتها عاملاً قوياً لتوليد اصطفافات جديدة معادية في مجملها لإسرائيل وأميركا. ودون أن نقلل من أثر الرهان الأميركي الإسرائيلي, نعتقد أن رهان "حزب الله" أقرب إلى الصواب. فوحشية الضربات الإسرائيلية ذاتها تضمن توليد تدفق غير محدود لما يسميه علماء الاجتماع بالغضب الأخلاقي ضد أميركا وإسرائيل. ونعتقد أن العامل الأهم في حسابات الاصطفاف الجديد سيأتي من جانب الطائفة السنية بالذات، دون أن نستبعد بذلك بقية الطوائف اللبنانية، خاصة أن الهمجية والحماقة السياسية الإسرائيلية لم توفر أرواح أو ممتلكات أي جماعة أو منطقة أو مدينة رئيسية في لبنان. ومن المؤكد أن الهمجية الإسرائيلية ضمنت انتهاء الاصطفافات التي ولدتها عملية اغتيال الحريري. أما العامل الثاني فهو موقف سوريا بالذات. وهنا يراوح الموقف الأميركي بين احتمال التصعيد ضد سوريا, وكسبها لصف التحالف الأميركي الإسرائيلي. وبالمقابل فإن "حزب الله" يراهن على موقف سوري أقوى في دعم المقاومة العسكرية والسياسية. ومن وجهة نظر الحسابات المجردة والخبرة التاريخية, ثمة ما يعزز رهان "حزب الله" أكثر من الرهان الأميركي والإسرائيلي. فقد ذهب البيت الأبيض بعيداً جداً في عدائه لسوريا, بحيث لا يتوقع أن تقود أية وعود لإغراء دمشق بتغيير مواقفها الاستراتيجية بصورة انقلابية ضد "حزب الله", خاصة أن سوريا خُدعت من قبل بمثل هذه الألاعيب الدبلوماسية والسياسية الأميركية والإسرائيلية دون طائل. أما السيناريو العكسي فهو وارد بشدة. فلو قامت إسرائيل بتحريض أميركي على توسيع نطاق الحرب لتشمل سوريا, فإن دخولها الاجباري سيحسب لصالح "حزب الله", وهو ما حدث في النموذج الناجح بصورة خارقة في الماضي عندما تمكنت من تصفية آثار عدوان عام 1982 واتفاق آذار 1983. أما العامل الثالث فهو عسكري بحت. وهنا تبدو الرهانات أشد تعقيداً. فإن أثبتت إسرائيل قدرتها على تخفيض القوة العسكرية لـ"حزب الله" عن طريق الاجتياح البري, فقد يضطر الحزب في النهاية، وبعد ضغوط لبنانية وعربية وربما إيرانية أيضاً، إلى قبول حل لا يكون تماماً فى مصلحته, وإن لم يكن في مصلحة إسرائيل أيضاً إلا بصورة جزئية. وعلى العكس, فإن تمكن "حزب الله" من استنزاف إسرائيل عسكرياً فمن المحتمل أن تتحرك العوامل السياسية المحلية في إسرائيل لتفرض رؤية مختلفة للصراع وقد تضطرها لقبول حل ليس في مصلحتها وإن لم يكن في مصلحة "حزب الله" تماماً أيضاً. وبإيجاز, لا يبدو أن الموقف العسكري والسياسي الراهن من النوع الذي يسمح بحل أو مخرج سياسي ودبلوماسي سريع. وبالحد الأقصى قد يسمح لإسرائيل باحتلال شريط حدودي في جنوب لبنان بدون أمد زمني محدد, وإيجاد نوع من الهدنة المتوترة وطرح عشرات من المبادرات الفاشلة, حتى تحدث العوامل الأطول مدى أثارها لحساب أي من الطرفين. ونعتقد أن الطرف الإسرائيلي لن يكون هو الفائز في هذا الصراع. سيولد "شرق أوسط جديد", ولكن ليس بسرعة، ولن يكون في مصلحة أميركا وإسرائيل.