الوضع يزداد سوءا بالنسبة لإسرائيل، والنتائج التي تتمناها الولايات من هذه الحرب تأتي عكسية تماماً حتى هذه اللحظة. إسرائيل وضعت نفسها في مأزق حقيقي هذه المرة، ومعادلة الحرب لم تعد في صالحها مهما كانت النتائج لأن معادلة الانتصار في هذه الحرب ببساطة هي أن على "حزب الله" أن لا يخسر "بشكل كامل" حتى يعتبر منتصرا أما إسرائيل فعليها أن تطيح بـ"حزب الله" نهائياً وبالضربة القاضية حتى تعتبر منتصرة ومن جميع المعطيات التي أمامنا حتى كتابة هذه الأسطر، فإن هذا الأمر غير ممكن لإسرائيل وبالتالي فإن "حزب الله" وعلى الرغم من الخسائر الهائلة التي تكبدها اللبنانيون بسبب مغامرته فانه سيعتبر المنتصر. على الرغم من مرور 58 عاماً على زرع هذا الكيان في المنطقة، أثبتت إسرائيل من خلال هذه الحرب أنها دولة لا تنتمي إلى هذه المنطقة، وأنها لا تستطيع في يوم من الأيام أن تنتمي لهذا الإقليم فبحربها الهمجية ضد المدنيين في لبنان، وبالفوضى التي أحدثتها في المنطقة دون أن تحقق أياً من أهدافها أو أهداف الولايات المتحدة من وراء هذه الحرب، أكدت إسرائيل من جديد أنها شيء غريب لا يمكن أن يصبح جزءاً من هذه المنطقة وأن تغير اسمها إلى الشرق الأوسط وإن كانت صغيراً أو كبيراً، وكذلك تبين للأميركيين بشكل خاص أنه لا يمكن الاعتماد عليها لتحقيق الأهداف الأميركية في المنطقة، فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة والرئيس الاميركي جورج بوش منح إسرائيل الكثير من الوقت كي تنجح في هذه المهمة وتنهي هذه الحرب لصالحها، فإنها فشلت فشلاً ذريعاً، بل العكس هو الذي تحقق فكل صاروخ "كاتيوشا" سقط على مدن إسرائيل خدم "حزب الله" بصورة لم يكن يتوقعها أكثر المتفائلين في الحزب. إسرائيل دفعت ثمناً باهظا لمغامرتها التاريخية في لبنان فقد حطمت هذه الحرب أسطورة مناعة قوة الدفاع الإسرائيلية وأحرجت حكومة أولمرت وجيش إسرائيل "الذي لا يقهر" بصورة لم يسبق لها مثيل وأمام كاميرات الفضائيات وعلى "الهواء مباشرة" كما كشفت الحرب الحالية على لبنان درجة تراجع الأمن القومي الإسرائيلي. فبعدما كانت إسرائيل تنقل الحروب إلى أراضي الغير صارت تتعرض لها داخل مدنها الرئيسية وذات الكثافة السكانية العالية وللمرة الأولى في تاريخها تصبح مدن حيفا وتل أبيب، والقدس، عرضة للقصف المباشر..... وربما أكدت هذه الحرب أن القوة لا يمكن أن تحل أية مشكلة بين الدول، فترسانة إسرائيل العسكرية بكل قوتها الجوية والبحرية والبرية فشلت في الانتصار على "حزب الله" بصواريخه البسيطة ومقاتليه القليلين، بل حولت "حزب الله" إلى بطل ينظر إليه الشارع العربي والإسلامي بل والعالمي على أنه فعل ما لم تفعله الحكومات العربية على مر عقود الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. الولايات المتحدة مصرة على قلب الحقائق ومصرة على موقفها الداعم لإسرائيل، ففي الوقت الذي يطالب العالم بأسره بوقف إطلاق النار في لبنان فالولايات المتحدة ترفض! موقف في قمة الغرابة ولكنه ليس الأول من جورج بوش ولن يكون الأخير ونتائج مواقف بوش صارت واضحة وموثقة بالأرقام، فقد أشارت إحصاءات واستطلاعات الرأي العام العالمي التي أجرتها مؤسسة "جالوب الدولية" مؤخراً إلى أن الأغلبية في شمالي أفريقيا وحتى جنوب شرق آسيا لا يثقون في الولايات المتحدة الأميركية ويشككون في مصداقيتها ومواقفها وسياساتها. وتراوحت هذه النسبة بين 91-95 في المئة.. وهذا يؤكد أن موقف الولايات المتحدة يزداد سوءا بسبب مواقفها في قضايا منطقة الشرق الأوسط. مشكلة الولايات المتحدة أنها تنظر إلى الحرب من ثقب "حزب الله" وضرورة استئصاله نهائيا دون النظر إلى حجم الجرائم البشعة التي ترتكبها إسرائيل بقنابلها وصواريخها وأسلحتها المحرمة دوليا ضد المدنيين الأبرياء، ففي سبيل تحقيق ذلك استشهد أكثر من 400 لبناني حتى يوم أمس وبلغ عدد الجرحى 1600 جريح، أما النازحون فقد فاق عددهم 750 ألفاً وخسائر اقتصادية هائلة ودمار في البنية التحتية ومشاكل اجتماعية وإنسانية لا حصر لها فضلا عن مئات الملايين من الدولارات التي خسرها لبنان على مدى أيام الحرب.. كل ذلك لم يره بوش، فقط الذي رآه هو القضاء على حزب الله نهائيا وبعد أسبوعين من القتل والتدمير صار واضحا أن اقتلاع "حزب الله" لن يتم من خلال صواريخ وقنابل وهمجية ورعونة وغباء إسرائيل وإنما هناك طرق أخرى أكثر بساطة ونجاعة لتحقيق مثل هذه الأهداف الكبيرة. ومن الأمور التي نتمنى أن تقوم بها الحكومة اللبنانية هي جمع كل الأدلة الميدانية على الجرائم التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في لبنان خلال الأسبوعين الماضيين وتقديمها كأدلة على جرائم حرب قامت بها إسرائيل لتحاكم عليها دولياً. بعد اليوم الرابع عشر من الحرب البشعة على لبنان ماذا تعلمت الحكومات العربية من هذه الحرب وهم يتفرجون عليها من بعيد؟ هل عرفت أن موقفها لم يكن شريفاً؟! هل عرفت أن مجموعة صغيرة "منظمة" يمكن أن تحرجها وتضعها في موقف لا تحسد عليه؟ وهل عرفت أن بين عشية وضحها يمكن أن يفلت زمام الأمور من يديها فلا تستطيع أن تتحكم في أدوات اللعبة في المنطقة وتنتقل من المستطيل الأخضر إلى المدرجات؟ والأهم من كل ذلك هل عرفت وانتبهت إلى أنه لو كانت هناك مؤسسات مجتمع مدني لما ظهر "حزب الله" ولا تنظيمات "القاعدة" وغيرها من الحركات والتنظيمات، ولكانت تلك المؤسسات المجتمعية تمارس أدواراً تمنع ظهور مثل هذه الجماعات وفي الوقت نفسه تمارس دورها في حماية بلدها بالطرق السلمية؟ أتمنى أن تكون دروس هذه الحرب وصلت للحكومات العربية، لأنها دروس في غاية الأهمية واستمرار تجاهلها سيؤدي إلى أوضاع كارثية في المنطقة. في كل الحالات الذي يمكن أن نؤكده أن أكبر خطأ ارتكبه العرب هو وقوفهم متفرجين على ما يحدث في لبنان، مما جعل الأطراف الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة تتدخل بشكل لم يكن يرضي الكثيرين. والأهم من ذلك أن قوى إقليمية وعلى رأسها إيران أطلت برأسها وبقوة من جديد في المنطقة من خلال هذه الأزمة وقالت كلمتها وأثبتت حضورها!! ومن جديد أثبتت الأحداث أن الخاسر الأكبر في الأزمات التي تمر بها المنطقة هي الدول العربية التي لم يكن يفترض بها أن تقف موقف المتفرج. الأفكار السعودية لإيجاد تسوية للحرب (وقف إطلاق النار، والقيام بتبادل الأسرى، وحل موضوع مزارع شبعا وإيجاد صيغة جديدة لا عودة فيها لما قبل 12 يوليو) قد تساهم في إنهاء هذه الحرب، ولكن قبل أن تنتهي، لا بد أن نشير إلى بعض الحقائق المهمة بعد مرور أسبوعين على هذه الحرب وتدمير نصف لبنان تُبين أن إسرائيل لم تتعلم شيئاً عن العرب على الرغم من عيشها بينهم لأكثر من نصف قرن. أما لبنان فأكد من جديد أنه بلد الصمود ليس "حزب الله" فقط وإنما كل لبنان بكل طوائفه ومذاهبه وأطيافه، فتحية للبنان وأهله الصامدين فقط. أما الولايات المتحدة فأكدت أنها طرف غير محايد وغير نزيه بل طرف أصل في كل ما يحدث في المنطقة وأنها تدير اللعبة كاملة. أما العرب فأكدوا أنهم أفضل من يتفرج "على الهواء مباشرة" على الأحداث التي تعنيهم فينتبهون للخطر القادم إليهم بعد فوات الأوان!