الحرب الحقيقية في العراق التي ستحدد مستقبل البلاد بدأت في السابع من أغسطس 2003، عندما انفجرت سيارة مفخخة بالقرب من السفارة الأردنية في بغداد، مسفرة عن مقتل 11 شخصاً وجرح أكثر من 50 آخرين. وقد جاء ذلك التفجير بعد مرور أربعة أشهر تقريباً على إعلان الجيش الأميركي انتصاره في العراق وإنهائه لعملياته العسكرية. لكن العملية التفجيرية أطلقت شرارة حرب عصابات دموية وطويلة أدمت الجيش الأميركي وجعلته يتخبط في المستنقع العراقي. ولم يعد خافياً اليوم بفعل الوثائق المتوافرة الخطوات التي اتخذتها حكومة صدام حسين لشن حرب عصابات على القوات الأميركية، فهي كانت تعلم جيدا أنها لا تستطيع كسب حرب تقليدية، لذا عكفت لفترة طويلة قبل سقوط النظام، وحتى خلال الشهور القليلة التي أعقبت انهيار النظام على تنظيم التمرد من خلال جمع الأسلحة وتوزيعها على العناصر الموالية لحزب "البعث". كما أن حركة الأموال والبشر المريبة داخل سوريا وخارجها كلها تؤشر على جدية الترتيبات التي سبقت إطلاق حرب عصابات تستنزف القوات الأميركية وتصيبها في مقتل. لكن ثمة قرائن أخرى قوية تستند إلى آلاف الوثائق العسكرية والمئات من اللقاءات التي أجريت مع عناصر الجيش الأميركي تشير إلى أن المقاربة التي اعتمدتها الولايات المتحدة لتهدئة الأوضاع في العراق عقب سقوط النظام ساهمت في إذكاء نار التمرد وتوسيع نطاقه. فمجرد الحضور الكثيف للقوات الأميركية في العراق شكل معضلة في حد ذاتها، فضلاً عن عدم وضوح القيادة في الجيش الأميركي، بحيث لم تكن هناك جهة معينة تشرف على الجهود الأميركية العامة في العراق، الأمر الذي أدى في بعض الأحيان إلى حدوث صدامات بين المسؤولين العسكريين ونظرائهم المدنيين. وفي 16 مايو 2003 فاقم بول بريمر، قائد سلطة التحالف المؤقتة بإصداره قرار استئصال "البعث" من المجتمع العراقي. ورغم المعارضة الشديدة للمدير الإقليمي لوكالة الاستخبارات الأميركية لهذه الخطوة الراديكالية لما ستفضي إليه من "دخول ما بين 30 إلى 50 ألف "بعثي" إلى عالم العمل السري، وبعد ستة أشهر سوف نندم على ذلك". ويبدو أن وكالة الاستخبارات المركزية كانت على حق في تقييمها، لا سيما بعد القرارات الكارثية التي استهدفت حل الجيش والشرطة العراقيين والدفع بالآلاف من الأشخاص إلى حمل السلاح في وجه الأميركيين بعدما جردوا من مهنهم وأقصوا من المشاركة في الدولة الجديدة. ومما زاد من تأجيج التمرد في العراق الطريقة التي اعتمدتها القوات الأميركية في التفاعل مع السكان، وهي الطريقة التي تستلهم التجربة الأميركية في البوسنة وكوسوفو. فقد ساد اعتقاد لدى القيادة العسكرية بأن التواجد الكثيف بين السكان والقيام بدوريات منظمة كفيل بتحقيق النصر وردع المتمردين. أحد جنرالات الجيش الأميركي علق على هذا الأمر قائلاً "لقد حملنا معنا تلك العادة منذ أن كنا في البلقان، وهي تعتمد على الحضور الكثيف بين السكان". وحسب الاصطلاح العسكري الدارج لدى القوات الأميركية تعتبر "القوات على الأرض" إحدى الاستراتيجيات التي استندت إليها الولايات المتحدة لاستعراض القوة وفرض الأمن. بيد أن المشكلة التي واجهت القوات الأمنية هي افتقاد هذه الاستراتيجية لأساس عقائدي في المراجع العسكرية، وعدم خضوعهم لتدريبات تهيؤهم لخوض عمليات عسكرية وسط الأهالي. والأكثر من ذلك أن هذه المقاربة العسكرية التي تعتمد على الحضور الكثيف للقوات الأميركية وسط التجمعات السكنية كان لها أثر عكسي وفقا لما صرح به المقدم "كريستوفر هولشيك"، ضابط الشؤون الأهلية الذي أكد بأن الرأي العام العراقي بدأ ينزعج من الحضور الأميركي الكثيف بينهم وشرع ينظر إليهم كمحتلين، حيث "أصبحت الدوريات التي يقوم بها الجنود مصدراً خطيراً للتوتر". فالقوات الأميركية في العراق تتكون أساساً من وحدات قتالية تقليدية بدلاً من وحدات أصغر من القوات الخاصة، حيث يكتفي قادة القوات التقليدية بإرسال المزيد من التعزيزات العسكرية إلى ساحات القتال وتنظيم العمليات وفقا للنمط التقليدي في خوض الحروب. ويبدو أن القليل فقط من الجنود الأميركيين كانوا يفهمون طبيعة الإنسان العراقي واعتزازه الشديد بهويته، والأكثر من ذلك المهانة التي يشعر بها لدى رؤيته قوات أجنبية تدير بلاده. ورغم الترحيب الذي أبداه بعض العراقيين بالقوات الأميركية في بداية الغزو، فإنه سرعان ما اجتاح الغضب نفوس العراقيين وانقلب إلى تمرد دموي موجه إلى صدور الأميركيين. والأنكى من ذلك أن المسؤولين العسكريين في العراق لم يكونوا يعرفون تماماً ما الذي يجري في بلاد الرافدين، حيث ظل وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، حتى بعد مرور أشهر على اشتعال التمرد وانتشار العنف، يرفض الاعتراف بوجود مشكلة ما، وعندما سأله أحد الصحفيين عن حقيقة وجود حرب عصابات يخوضها المتمردون ضد القوات الأميركية رد رامسفيلد "أعتقد بأن سبب عدم استعمالي لعبارة حرب العصابات هي عدم وجودها أصلاً". لكن في أعقاب تسلم الجنرال "جون أبي زيد"، منصب القائد الأعلى القوات الأميركية في الشرق الأوسط، خلفاً للجنرال "تومي فرانكس" بعد أسابيع قليلة من تصريح رامسفيلد عقد مؤتمراً صحفياً يوضح فيه الوضع في العراق قال فيه: "نحن بصدد حرب عصابات تقليدية"، مضيفاً "إنها حرب حقيقية ولا يمكن إخفاء ذلك". وفي تلك المرحلة أخذت العمليات العسكرية في العراق تتجه نحو المزيد من العنف والقسوة في التعامل مع التمرد، وهو رد فعل طبيعي بالنظر إلى النيران التي كان يتعرض لها الجنود الأميركيون. غير أن القسوة من ناحية أخرى أضعفت الاستراتيجية الأميركية على المدى البعيد. ويضاف إلى ذلك الطرق التي لجأ إليها عملاء الاستخبارات في استنطاق المعتقلين العراقيين واستخدامهم لأساليب قاسية تمعن في إهانة العراقيين ما ساهم في دفعهم إلى الالتحاق بصفوف المتمردين. ورغم التجارب الأميركية السابقة في فيتنام حيث خاضت الولايات المتحدة حرب عصابات شرسة، فإن المسؤولين في العراق رفضوا الاستفادة من تلك التجارب. ففي صيف 2003 أرسلت وزارة الدفاع الأميركية العقيد المتقاعد "جاري أندرسون، الخبير في الحروب الصغيرة إلى بغداد لتقديم المشورة حول كيفية دحر التمرد. وعندما التقى مع بريمر قال "سيدي السفير إليك البرنامج الذي نجح في فيتنام"، لكن بريمر احتد عليه وصرخ في وجهه "إني لا أريد الحديث عن فيتنام إننا اليوم في العراق وليس في فيتنام". توماس ريكس محرر الشؤون الخارجية في "واشنطن بوست" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز واشنطن بوست"