المبادرة السعودية ذات الست نقاط لحل الأزمة اللبنانية الجارية والتي شغلتنا يوم أول من أمس الأحد، غير صحيحة، ولا يزال الوقت مبكراً لبلورة مبادرة محددة ومفصلة، ولكن الخبر الجيد (إن كان ثمة خبر جيد هذه الأيام)، هو أن السعودية تسعى لبلورة مثل هذه المبادرة مع أطراف دولية عدة نشهد اتصالاتهم هذه الأيام، لتكون وصفة لحل كامل وشامل يعالج كل قضايا لبنان، داخليا، ومع جيرانه، وبالشكل الذي يحفظ وحدته واستقلاله وأمنه، ويمنع تكرار دورة العنف فيه كل عدة سنوات، فلبنان رئة العرب ونحتاج إلى أن تكون هذه الرئة سليمة. وللأسف كان لابد من حرب ودمار كي يلتفت العالم للبحث عن حل كامل وشامل للحالة اللبنانية القلقة التي تعقدت وازدادت تعقيداً منذ اغتيال رفيق الحريري، وكأنه لابد من "سربينتشا" لبنانية لكي تقتنع الولايات المتحدة وبريطانيا أن التوصل لذلك الحل الكامل يستدعي أولاً وقفاً لإطلاق النار. وأرجو أن أكون مخطئاً في الثانية، وتنجح المساعي السعودية الجارية في إقناع الولايات المتحدة بضرورة وقف إطلاق النار قبل أن يسقط اللبناني رقم 6000 صريعاً مثلما حصل في سربينتشا في حرب البوسنة، والتي لم يتحرك الغرب إلا بعدها لوضع حد للهمجية الصربية التي لا تنافسها اليوم سوى همجية إسرائيلية التي تتجاهل كل أخلاقيات الحرب مستندة في ذلك إلى ماكينة إعلامية فعالة وغطاء أميركي يتنافس في نسجه الشيوخ والنواب الأميركيون حتى جعلوا من إسرائيل "ديزني لاند" رقيقة تتعرض لأبشع عدوان. متى وكيف ؟ لا نعرف، ولكن في النهاية سيحصل وقف لإطلاق النار دون أن يختفي "حزب الله"، وبالطبع لن تختفي "إسرائيل"، وبالتالي لابد من التوصل إلى حل يأخذ في الاعتبار مطالب الطرفين، ومن الجيد أنها مطالب الحكومة اللبنانية مع جملة أخرى من القضايا المعلقة تخص لبنان ككل، ومن الضروري حلها كي يعيش لبنان في سلام مع نفسه ومع جيرانه بشكل دائم، وواحة عربية للحرية والرفاهية كما أراده آباؤه المؤسسون، ولعل ذلك ما قصدته كونداليزا رايس عندما تحدثت "مرة أخرى" عن "شرق أوسط جديد"، ويا لهول هذه الجملة، فآخر مرة جاء فيها ذكر "الشرق الأوسط الجديد" كان قبل الغزو الأميركي للعراق! بمغامرته غير المحسوبة، عجل "حزب الله" على نفسه ذلك الاستحقاق الذي كان يتحاشاه في جولات الحوار الوطني التي جرت بين مختلف القوى السياسية اللبنانية قبيل إشعاله للحريق الذي يلتهمه ومعه كل لبنان، وهو أن يتحول إلى مجرد حزب سياسي مدني، يخدم طائفته وأنصاره ويتواضع عن لعبة الرمز المقاوم الذي يجاهد نيابة عن الأمة وليس عن الشعب اللبناني فقط، وهو أمر لم يكن سيمثل خسارة فادحة للحزب، وإنما كان سيكفل له موقع الحزب الشعبي الأكبر في لبنان، وبعد أيام أو أسابيع عندما ينجلي غبار الحرب، لن يستطيع أن يتحاشى هذا الاستحقاق والذي تريده بقية القوى السياسية اللبنانية، حتى تلك التي تجامله اليوم وتقول إنها تصطف معه في خندق المقاومة، إلا إذا انتصر انتصاراً غير الذي عرفه أمينه العام حسن نصر الله بمجرد "الصمود"، وإنما انتصار حقيقي يدحر فيه العدوان، ويبقي على مجمل قوته ليستطيع أن يرفض تنفيذ القرار الأممي 1559، أو أن يشطر لبنان فيستقل بجمهوريته الإسلامية، أو أن يجر لبنان وربما جيرانه كلهم في مستنقع فتنة أهلية، أو يفتح الباب لجهاد ضد المحتل الأجنبي وعملائه على الطريقة العراقية، وكل ذلك غير مقبول إقليميا ودوليا. الحل السياسي الممكن هو التوافق على العوامل المشتركة حتى مع العدو، فما هي هذه العوامل المشتركة؟ تقول رايس إنها تريد حلاً دائماً، والذي يعني لها أن لا يكون "حزب الله" مصدر تهديد لإسرائيل بصواريخه وعملياته الجريئة عبر "الحدود الدولية" أما بالنسبة للحكومة اللبنانية، وحلفائها العرب وصديقتها فرنسا، فهو تحقيق لبنان حر، كامل الاستقلال، ديموقراطي، بدون ميليشيا مسلحة، لا يتدخل حتى أصدقاؤه في شؤونه، يعيش ضمن حدود دولية معترف بها وُمرسمة، محرر كل شبر من أراضيه، مطلق سراح كل أبنائه الذين وقعوا في أسر الأعداء و"الأصدقاء" معاً، وبالتالي لا يمكن التوصل إلى حل دائم بدون تحقيق مطلب "حزب الله" الأول وهو "تحرير الأسرى" ومطلبه الثاني "الأرض" أي مزارع شبعا بجلاء إسرائيلي أو ترسيم يعيد مسؤولياتها إلى سوريا لتحررها وقتما تريد مع جولانها المحتل. والحق أن كلا المطلبين يخصان لبنان كله، حكومة وشعبا، وليس مطلب "حزب الله" وحده، وبالتالي ستتفاوض في أمرهما الحكومة. أما مطالب إسرائيل والولايات المتحدة في بسط سلطة الدولة على كل الجنوب، ونزع سلاح "حزب الله"، وتضمين الحدود، فهي ليست مطالب "العدو" وحده وإنما مطلب غالبية اللبنانيين، حكومة وشعبا، وبالتالي ستتفاوض في شأن تطبيقها مرة أخرى حكومة لبنان الشرعية والتي لابد أن تستعيد هيبتها وكامل مسؤوليتها، فهي صمام الأمان للوطن اللبناني. بالطبع لا يمكن التفاؤل بتحقيق هذا الحل المثالي اليوم، ونحن بالكاد نستبينه وسط خضم المعارك، وحماسة الشارع، ودعوات الجهاد، وعجرفة إسرائيل، والتأييد الأميركي لها غير المشروط، ستصر إسرائيل على نصر كامل، واستئصال مبين لـ"حزب الله" ومقاتليه، وستجد لمطالبها هذه صدى يرن في أرجاء واشنطن، بل حتى سيزايدون عليها من هناك ويدعونها للصمود والاستمرار. "حزب الله" من جهته سيستبسل في معركته المصيرية، وسيصمد قدر ما يستطيع، إذ أن تسليمه للأسيرين الإسرائيليين، بدون مكاسب يبرر بها لأنصاره ولعموم اللبنانيين ما اقترفت يداه، سيكون انتحاراً سياسياً، ولا يعني ذلك للأسف سوى أن آلة الحرب ستحصد مزيداً من المدنيين اللبنانيين ومزيداً من بنيتهم الاقتصادية حتى "يستوي" الطرفان وتتهيأ الظروف للمفاوضات. حينها سيلين الموقف الإسرائيلي– الأميركي، ليس لـ"حزب الله"، وإنما للحكومة اللبنانية التي ستمثل شعبها في عملية التفاوض، وسيدعمها أصدقاؤها السعوديون والفرنسيون في ذلك، فتقبل إسرائيل بتبادل الأسرى مع الحكومة اللبنانية، يتلو ذلك حسم موضوع مزارع شبعا، وهنا يأتي الضغط المؤجل على سوريا، والتي ربما يكون قد نالها بعضا من أذى الحرب ومعاناتها، فتقول كلمتها النهائية في من تعود له ملكية شبعا، أو "تدول" المزارع لتكون مقراً للقوة الدولية الهائلة والتي ستستقر في جنوب لبنان لعدة سنوات، كما سيطلب من سوريا أن تقبل بترسيم كامل لحدودها مع لبنان، وتتخلى عن موقع الأخ الأكبر مقرة باستقلال لبنان وتتبادل معه السفراء، وللأسف، وبسبب المغامرات الطائشة والمماطلة، سيتم كل ذلك في حفلة إذلال كبيرة للعرب تغطيها مجاملات وابتسامات زائفة، وتخوف من الآتي، ألم تقل رايس "شرق أوسط جديد"؟ ستحاول إسرائيل ومعها الولايات المتحدة أن تحقق "الجائزة الكبرى" بالضغط على الرئيس السنيورة وحكومته للتفاوض على "اتفاق سلام" معها، وهو ما سترفضه الحكومة مستندة إلى موقف شعبي لبناني، بالطبع سيتصدر "حزب الله" في هذه المسألة، وربما يزعم أنه هو الذي انتصر ومنع الحكومة من الاستسلام وتوقيع اتفاق سلام مع العدو، ليكن ذلك، دعوه يتمتع بذلك، ولكن في الحقيقة ستستند الحكومة اللبنانية هذه المرة في رفضها إلى دعم سعودي بالدرجة الأولى، وتقول إنها ملتزمة بمبادرة الملك عبد الله للسلام التي اعتمدت في قمة بيروت 2003 والتي تقول بتلازم كل مسارات السلام العربية وبحل شامل للقضية الفلسطينية. أخيراً يأتي دور إيران، فالمطلوب لبنانياً وبصراحة وقتها "نزع سلاح الحزب"، وهنا لابد من تفاهم حكماء بين الرياض وطهران، للفصل بين الملف النووي الإيراني، والطموحات الإيرانية، وبين الحالة اللبنانية، إنه حل مؤلم بل كارثي لإيران و"حزب الله"، والبديل الوحيد أمامهما لإفشاله هو استمرار الحرب وجر إسرائيل بعد أن أفقدها إعجابها بقوتها حكمة السياسيين إلى مستنقع لبناني، أشبه بالمستنقع العراقي الذي وجدت الولايات المتحدة نفسها فيه، ولكن لا أحد يضمن وقتها أن لا يمتد إلى ما بعد لبنان. لعل ما جرى لم يكن مغامرة طائشة من "حزب الله"، وإنما خطة محكمة اهتدى إليها هو وحلفاؤه من عدوتهم اللدودة "القاعدة"، وحتى لا تطول المقالة أكثر، ارجعوا إلى أدبيات "القاعدة" وزعمائها في فوائد الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق.