لم يقتنع أهل "أم القرى" (مكة) بما احتج به القرآن لإقناعهم، في إطار إعادة ترتيب العلاقات معهم بعد أن أصبح "القرآن" كتاباً لهم، لم يقتنعوا بأن محمداً بن عبد الله هو رسول الله إليهم، وأنه ينتظم في سلسلة الأنبياء والمرسلين الذين عرفهم العرب قديماً مثل هود نبي قوم عاد، وصالح نبي قوم ثمود ..الخ، وبأن القرآن الذي جاء به هو كتاب سماوي جاء لينقلهم من وضعية "أمة أمية" ليس لها كتاب إلى أمة لديها كتاب (المقال السابق). لقد كان رد فعلهم أن قالوا: "مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ؟ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا! وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُوراً" (الفرقان 7/8)، وترد عليهم سورة الفرقان بقوله تعالى: "وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً، أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً، وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا. لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً" (الفرقان 20 /21). وبعد هذه المطالب التعجيزية، التي واجهت بها قريش النبي عليه الصلاة والسلام، وبعد رد القرآن عليها، قدموا مطلباً آخر قصدوا به التشكيك في أن يكون القرآن "كتاباً" مثل كتب أهل الكتاب. يقول تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً". وواضح أن في قولهم هذا إشارة إلى التوراة. بمعنى أنه لو كان القرآن كتاباً من عند الله إلى محمد عليه الصلاة والسلام لنزل عليه مرة واحدة كما نزلت التوراة على موسى، بدل نزوله منجماً مفرقا حسب مقتضيات الأحوال. وقد رد الله عليهم شارحاً الحكمة من إنزاله مفرقا فقال: "كَذَلِكَ (لم ننزله جملة واحدة) لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً"، ثم عقب على اعتراضهم ذلك بالقول: "وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً" (الفرقان 32/33). لقد ذكر المفسرون في شرح الحكمة من نزول القرآن مفرقاً آراء اجتهادية، بعضها ينسجم مع سياق هذه الآية وبعضها بعيد عنه. وواضح أن هناك في هذه الآية جانبين: الأول يخص النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله تعالى: "لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ"، الشيء الذي يعني أن الحكمة من نزول القرآن مفرقاً، حسب مقتضيات الأحوال، هو تعزيز جانب النبي صلى الله عليه وسلم إزاء خصومه بالإجابة عن أسئلة السائلين في وقتها، ورد ادعاءات المشككين والمكذبين، وفي ذلك تقوية لموقف الرسول عليه الصلاة والسلام وتثبيت له في قيامه بالدعوة. أما الجانب الثاني فيخص القرآن وهو قوله تعالى عنه "ورتلناه ترتيلاً". ونحن نعتقد أن معنى هذه العبارة يجب فهمه على ضوء عبارة أخرى هي قوله تعالى "ونزلناه تنزيلاً" وقد وردت في الآية التي تشرح جانباً آخر من حكمة نزول القرآن مفرقاً، أعني قوله تعالى: "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً" (الإسراء 106). إن لفظ "التنزيل" يفسر "الترتيل"، ذلك أن التنزيل يعني نزوله شيئا فشيئا، وعلى مهل، بخلاف الإنزال الذي يعني نزوله مرة واحدة. ونزوله مفرقاً، على مهل، هو الذي يسمح بترتيله، أي بقراءته على مهل كذلك، وبذلك يكون تأثيره أكبر وأعمق. إن قوله تعالى: "ورتلناه ترتيلاً" يعني بصريح العبارة أن "ترتيل القرآن" جزء من القرآن، وبالتالي فكيفية الترتيل يأخذها النبي عن جبريل كجزء لا يتجزأ من الوحي، وقد أفصح القرآن عن ذلك في قوله تعالى "فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ". ويقول المفسرون إن النبي كان يتلقى الوحي من جبريل وكان يحرص على أن لا يفوته منه شيء فكان "يحرك لسانه" عند سماعه، أي يستعجل قراءته فيقرأه قراءة متزامنة أو تكاد مع قراءة جبريل، فنزل قوله تعالى: "لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ" (القيامة 16-19). أما لفظ "قرآنه" فمعناه "قراءته"، وبما أن القرآن يفسر بعضه بعضاً فإن معنى "القراءة" هنا هو القراءة على طريقة مخصوصة وهي "الترتيل". وهكذا يكون قوله تعالى: "إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ" مكافئاً لقوله "وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً"، وقوله: "وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً". ومن هنا نفهم كيف أن القرآن كان وما يزال موضوعاً للقراءة، قراءة على طريقة معينة، أعني المسماة بالترتيل والتجويد، وهي أهم وأبلغ في مجال التأثير على المستمع من مجرد قراءته قراءة عادية. ومن هذه الجهة فليس هناك من لفظ يعبر عن هذه الخاصية غير لفظ "القرآن". يتضح هذا إذا نحن أخذنا نقارن بين مضمون لفظ "الذكر" و"الحديث"، من جهة، ومضمون لفظ "القرآن" من جهة أخرى. فالذكر والحديث ينصرف معناهما إلى العبرة المستخلصة من النظر في أشياء تقع خارج الذات، مثل نظام الكون وأخبار الأقوام الماضية وقصص الأنبياء، ومشاهد القيامة ..الخ. أما مضمون لفظ "القرآن" فينصرف إلى ما تتركه تلاوة القرآن (ترتيله) من تأثير داخل الذات، سواء في نفس القارئ أو في نفس المستمع. أما لفظ "الكتاب" فيحيل معناه، عندما يوصف به القرآن إلى "الكتاب"، بمعنى اللوح المحفوظ أي ما كتب للناس وعليهم، أي إلى المسؤولية والجزاء، إلى الأحكام بمعناها العام. وبناء عليه يمكن القول، ونحن نرصد مسار الكون والتكوين في القرآن، إنه بدأ ذكراً وحديثاً، ثم صار، إضافة إلى ذلك، قرآناً تقوم طريقة تلاوته وترتيله بتأثير ينقل موضوع الذكر والحديث إلى مشاهد صوتية منغَّمة، تقرر وجوداً يحمل معه برهانه، فيستغني عن برهان العقل: "لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ" (الحشر 21). فالجبل لا عقل له ومع ذلك فترتيل القرآن يجعله "مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ"، وذلك كناية عن تأثير القرآن من خلال الترتيل الذي يتوافق مع نظمه، وهما معاً (نظمه وترتيله) جزء من ماهيته. ومع انتشار الدعوة ونمو الجماعة الإسلامية في مكة، صار القرآن كتاباً كذلك، نقل العرب من أمة ليس لها كتاب (يقرر العقيدة والقيم) إلى أمة صار لها مثل هذا الكتاب. إن إبراز القرآن لهذه الخاصية في القرآن، أعني قراءته على طريقة مخصوصة بحيث تحدث تأثيراً خاصاً، وإن تأكيده مرات عديدة على أنه نزل بلسان عربي مبين، مثل قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً" (طه 113)، وقوله: "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ" (الشعراء 192- 195)، وقوله: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ! لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ (يشيرون) إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ" (الإسراء 103)، وقوله: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا..." (الشورى 7)... الخ، أقول إن تأكيد القرآن على خاصية "الترتيل" وعلى كونه نزل "بلسان عربي مبين"، يدخل في إطار إعادة ترتيب العلاقة مع قريش. ذلك أن النبي محمداً، العربي، ليس هو عربي فقط بانتظامه في سلسلة الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله لأهل القرى في بلاد العرب، مثل هود وصالح وشعيب ..الخ، بل هو عربي أيضاً من جهة أن الكتاب الذي جاء به نزل "بلسان عربي مبين"، من جملة مظاهر بيانه أنه ينزل مفرقاً ليقرأه النبي "عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ"، مرتلا مؤثرا، حتى قال عنه بعض كبراء قريش إنه "سحر مؤثر". وإذن فالأمر يتعلق برسول عربي، وبكتاب نزل بلسان عربي، وأكثر من ذلك جاء وفق معهود العربي الشيء الذي سيفصح عنه القرآن المدني، قرآن الدولة، قرآن التشريع، حيث نقرأ قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِّاً..." (الرعد 37). ولفظ "الحكم" في القرآن معناه "الحكمة"، ووصف القرآن بكونه "حكما" عربيا معناه أنه جاء وفق معهود العرب، ليفهموه من جهة وأنه، من جهة أخرى، لا يتناقض مع ما لديهم من أعراف في الحكم على الأشياء مما يدخل في معنى "المعروف"، أي ما هو حسن في نظر العقل والدين. تلك، على الجملة، هي الكيفية التي سلكها القرآن في إعادة ترتيب العلاقات مع قريش حينما أعلن عن أنه كتاب منزل إليهم بلسانهم ليرتفع بهم من أمة ليس لها كتاب إلى أمة لها كتاب خاص بها. يبقى الجانب الآخر وهو إعادة ترتيب علاقة القرآن/الكتاب مع "أهل الكتاب".