آلام مخاض غطت دماؤها جغرافية الشرق الأوسط، من العراق إلى فلسطين وصولاً إلى لبنان، وما بينهما وما بعدهما لتبشر وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس بولادة "شرق أوسط جديد"، كنتيجة من نتائج الحرب الإسرائيلية على لبنان و"حزب الله" ومعهما إيران وسوريا. ومن الحديث عن "شرق أوسط كبير" إلى الحديث عن "شرق أوسط جديد"، مصطلحان قديم وآخر جديد أعلنت عنهما وزيرة الخارجية الأميركية، واستبقت بهما جولتها الشرق أوسطية، واستبعدت في حديثها هذا أي وقف لإطلاق نار فوري بين لبنان وإسرائيل، رغم الضغوط الدولية المتزايدة بهذا الاتجاه. الوزيرة قالت إن "أي وعد بهذا الشأن سيكون كاذباً ما لم تعالج جذور الصراع". فأي شرق أوسط جديد سيتمخض عن الحرب الإسرائيلية على لبنان؟ وكيف تبشر هذه الحرب بنظام إقليمي جديد سواء سمي بشرق أوسط "كبير" أو "جديد"، لقد أظهرت الحرب الإسرائيلية الحالية على لبنان حقيقة التفرد الأميركي بالعالم، فمجلس الأمن والذي يرتكز على حفظ الأمن والسلم الدوليين مشلول رغم استمرار العدوان الإسرائيلي السافر ورغم الجولات المكوكية للموفدين الدوليين، فالولايات المتحدة ببساطة تعيق اتخاذ مجلس الأمن أي قرار لوقف إطلاق النار. وبدت التصريحات الدولية رغم المشاهد الدموية وعمليات النزوح الإجبارية للشعب اللبناني تصريحات رمادية لا تخرج عن عبارات إدانة اختطاف الجنديين الإسرائيليين والعمليات العسكرية لـ"حزب" الله في شمال إسرائيل والإدانة لاستخدام إسرائيل "القوة المفرطة"، والدعوة للطرفين بوقف القتال، واشنطن تؤجل الحسم وترسل "قنابل ذكية" لمدللتها إسرائيل، وها هي "رايس" تطل من جديد على الشرق الأوسط بزيارات مكوكية دورية، فلا تكاد تغادر حتى ترجع متجاهلة مقولة وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر بأن الشرق الأوسط هو مقبرة وزراء الخارجية الأميركية، ومن زيارة إلى إسرائيل والضفة الغربية والقاهرة ستحضر مؤتمراً دوليا بشأن لبنان تستضيفه إيطاليا في السادس والعشرين من الشهر الجاري، لكن التساؤل هنا: كيف تخدم السياسة الأميركية الحالية استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟ تلعب واشنطن على الطريقة الإسرائيلية، وفي الزمن الأميركي واشنطن هي اللاعب الرئيسي في المنطقة، وتنحى الإدارة الاميركية إلى الاختزال، اختزال الحقائق واختزال المواقف وتبسيط العلاقات الدولية لتدور في محور الأخيار والأشرار والأكثر شراً، وهي رؤية عبر عنها الرئيس الأميركي في تصريحات عدة، فالشرق الوسط – كما يعرفه- مجموعة من الأشرار والأقل شراً يحيط واحة الديمقراطية الإسرائيلية، فـ"إسرائيل تدافع عن نفسها في مواجهة الإرهاب و"حزب الله" هو سبب الأزمة"، بهذه الكلمات البسيطة لخص الرئيس بوش في قمة الثماني الموقف الأميركي، فلم يكن الدعم الأميركي المستمر والمتعاظم للسياسات الإسرائيلية وللحرب الإسرائيلية على لبنان مفاجأة. تبدلت الأقنعة فلسنوات عملت الإدارة الاميركية ومعها الآلة الإعلامية الأميركية على شيطنة (جعله شيطاناً) بن لادن ثم، انتقل الدور على صدام حسين، ومع سقوط الأخير ظل المنصب شاغراً حتى اعتلاه غير المأسوف على شبابه "الزرقاوي" ومع مقتله تتقافز الشياطين بلا حامل راية حتى منحتها واشنطن للسيد حسن نصر الله بامتياز و"حزب الله" غدا "حزب الشيطان" وفق السياسة الأميركية، وبعقلية "المحافظين الجدد"، تُدار السياسة الخارجية الأميركية اليوم. تضع إسرائيل قوانين اللعبة، وواشنطن تعلن بدء مرحلة شرق أوسطية جديدة، أوضاع سيُعاد ترتيبها، تحالفات سيعاد إحياؤها، وأخرى سيتم إقصاؤها، تلعب فيها الدول العربية إلى جانب إسرائيل صمامات أمان لهذا الشرق الجديد، شرق يُحجم من المحور السوري- الإيراني، ينطلق من محاصرة "حزب الله" بلبنان، وحركة المقاومة الإسلامية "حماس" في فلسطين، حديث عن خريطة جديدة للعراق، شرق أوسط تغيب عنه مشاريع الدمقرطة التي قد تجلب الملالي لكراسي السلطة. لقد دخل مصطلح "الشرق الأوسط الكبير" في مفردات السياسة الخارجية الأميركية أثناء الحرب الأميركية- البريطانية على العراق، وبدأت الإدارة تبشر بدمقرطة الشرق الأوسط بعد أن امتدت جغرافيته من المغرب العربي إلي الهند وباكستان شرقاً وبدأت عملية دمقرطة أفغانستان ومن بعدها بدأت عملية التطبيل لدمقرطة العراق باعتبارها تخلق النموذج الديمقراطي ممثلا بالعراق، لقد أثبتت الحقائق على الأرض خطأ السياسة الخارجية الأميركية التي راهنت على الدمقرطة ومحاربة الإرهاب، وركزت على محاربة شياطينها، وبدا لمتابعي السياسة الخارجية الأميركية عدم وضوح الرؤية الأميركية للشرق الأوسط وتخليها عن حلفائها التقليديين بالمنطقة العربية. كانت مراهنة إدارة بوش على التغيير والديمقراطية في الشرق الأوسط والنظم العربية نقطة محورية في الطرح الأميركي، وبدا أن السياسة الأميركية الخارجية تمر بنقلة نوعية في توجهاتها. ففي معادلة الاستقرار والأمن مقابل الديمقراطية والتغيير، اختارت واشنطن فرض مصطلحات التغيير والديمقراطية وحقوق الإنسان في خطابها الموجه للدول العربية، وفي المقابل بدا واضحاً أن "المحافظين الجدد" في الإدارة الأميركية يرتهنون السياسة الخارجية والخطاب الإعلامي الأميركي، فتداخل خطاب السياسة الإسرائيلية والسياسة الأميركية بشكل لم يسبق له مثيل، وبدا أن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط تُصاغ في تل أبيب لا واشنطن، فاللافت لدى من يراقب السياسة الأميركية أن الخيارات التي انتهجتها الإدارة الاميركية تخدم إسرائيل أكثر مما تخدم الولايات المتحدة. السياسات الأميركية تجر المنطقة إلى مستنقعات العنف، فبؤر التوتر العربية تغذيها سياسة منجرفة في دعمها لعهر السياسة الإسرائيلية، مهددة بتفجر براكين التطرف حتى يصبح معها الاعتدال جريمة أو تهمة. الحكومات العربية تواجه مأزقاً مضاعفاً، فهي متهمة على الدوام من شعوبها بالتخاذل والهوان، الحكومات من جانبها تدري أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، فلا قدرة لها على امتطاء فرس الـ"دون كيشوت" ولا حتى محاربة طواحين الهواء، ووسط كل ذلك تخسر واشنطن، جذور العنف ستظل مشتعلة تحت رماد الأمر الواقع العربي، والدعم الأميركي السافر لإسرائيل سيولد المزيد من الإرهاب، وسيظل الإرهاب دائرة مغلقة تجر المنطقة للمزيد من انهار الدماء. في عالم الأشرار والأخيار وأنصاف الحقائق، سيولد مسخ اسمه "الشرق الأوسط الجديد"