ألا ما أصعب قراءة التعليقات والتحليلات الإسرائيلية والعربية للنزاعات المستعرة الآن في الشرق الأوسط! فهي مثيرة للقلق بحق. وعلى الجانب الإسرائيلي نجد أن القراء يعيدون قراءة ما كتب قبل نحو عدة عقود خلت. من ذلك على سبيل المثال, فقد أقنع الإسرائيليون أنفسهم بأنه وعن طريق استخدام القوة المطلقة–على النحو الذي عبر عنه ذات مرة الجنرال إيتان- فإنه سوف يغدو في الإمكان سحق "رأس حية" المقاومة الفلسطينية وكسر أنيابها مرة واحدة وإلى الأبد. ثم تلي تلك الخطوة إنشاء علاقات طبيعية مع الجارة لبنان بعد أن يتم تركيعها وتحييدها. غير أن الملاحظ أن هجومهم الوحشي الطويل الأمد على لبنان, أتى ثماراً مريرة ومغايرة جداً لما توقعوه. فعلى إثر مصرع نحو 18 ألف لبناني وفلسطيني, مصحوباً بدمار ماحق لحق بلبنان في الاجتياح الإسرائيلي الأول عام 1982, أرغمت "منظمة التحرير الفلسطينية" على مغادرة الأراضي اللبنانية. بيد أن تلك القصة كانت أبعد ما تكون عن النهاية. فقد وقع الرئيس اللبناني الذي جرى انتخابه تحت تأثيرات تلك الحرب, على اتفاقية سلام منفردة مع إسرائيل وقتئذ. ولكن الذي تلا ذلك مباشرة, اغتيال الرئيس اللبناني آنذاك, بينما أقدمت الميليشيات اللبنانية بمساعدة ودعم القوات الإسرائيلية على ذبح مئات الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا. وتحت تأثيرات ردة الفعل العالمية الغاضبة على تلك المجازر الوحشية, أرغمت إسرائيل على إعادة نشر قواتها في الجنوب اللبناني, مع العلم أنها ظلت تحتل ذلك الجزء منذ عام 1978, في حين ازدادت الحرب الأهلية اللبنانية اشتعالاً على امتداد ثماني سنوات متواصلة. ليس ذلك فحسب, بل كانت هناك تداعيات وعواقب غير مقصودة ولا مخطط لها للاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982, الذي قصد منه شن حرب لوضع حد للإرهاب. فعلى الصعيد الفلسطيني, امتدت المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي إلى عمق الضفة الغربية وقطاع غزة, لتتخذ شكل انتفاضة شعبية واسعة النطاق, استمرت هي الأخرى لخمس سنوات ممتدة. كما تمخض غضب اللبنانيين وشعورهم المرير إزاء الاحتلال الإسرائيلي لبلادهم, عن نشوء حركة مقاومة أكثر دموية وعنفاً ممثلة في "حزب الله". ومن التداعيات غير المباشرة أيضاً, تحول الولايات المتحدة الأميركية, التي أعطت إسرائيل الضوء الأخضر لاجتياحها للبنان, ثم وفرت لها الغطاء الجوي اللازم لتنفيذ إعادة نشر قواتها جنوباً, تحولت هي نفسها إلى هدف رئيسي للإرهاب. وبالنتيجة فقد سقط مئات الأميركيين ضحايا للهجمات التي شنها "حزب الله" على السفارة الأميركية والثكنات العسكرية البحرية, بينما جرى اختطاف الكثير من المدنيين الأميركيين الأبرياء واحتجازهم كرهائن لعدة سنوات, إلى أن جرى تحريرهم لاحقاً. وبالنظر إلى هذه الخلفية التاريخية للأحداث والتطورات الجارية هذين اليومين, فلست أدري ما إذا كان عليّ أن أبكي أم أضحك وأنا أطالع تحليلات وتعليقات الإسرائيليين لحملتهم وعملياتهم العسكرية الجارية في لبنان, وهم لا يزالون يستخدمون اللغة ذاتها التي سبق لهم استخدامها قبل 24 عاماً! وكان منطق القوة المطلقة هذا قد خاب حينها وانتهى نهاية كارثية فيما نعلم. وبالمنطق ذاته فإن مصيره الفشل والخيبة اليوم, طالما ظل على عناده وتجاهله لحقائق الواقع. أما على الصعيد العربي, فإنه لمزعج بالقدر ذاته قراءة بعض التعليقات والتحليلات عن الأزمة الراهنة, وهي تجتر ذات الأوهام القديمة. من ذلك مثلاً مبالغة البعض في مدح قدرات "حزب الله", ووصفه بأنه كشف عن ضعف قدرات إسرائيل وهشاشتها العسكرية. وتمضي تلك الأوهام إلى القول إن "حزب الله" رد إلى العرب شرفهم وكرامتهم الجريحة, وبيّن للعالم كله إمكانية منازلة إسرائيل وهزيمتها عسكرياً. ولكن الذي ينساه هؤلاء أننا سمعنا ذات المديح والنعوت من قبل.. فإلى ماذا انتهى بنا الحال في نهاية المطاف؟! والآفة هنا هي خلط المغامرة العسكرية الطائشة بالبطولة والقدرة الحقيقية. ومن المؤكد أن في آلاف اللبنانيين والفلسطينيين الذين سقطوا, وفي ما حاق من دمار واسع النطاق بكل من لبنان وقطاع غزة, ما يشير إلى حقيقة مغايرة تماماً, وجب علينا الانتباه إليها بعيداً عن الأوهام والترهات الرومانسية الحالمة.