لابد أن نختلف على مبررات تدمير لبنان، وهل ثمن الجنديين أو الثلاثة الذين أسرهم "حزب الله" كان معادلاً لحجمهم ودورهم؟ وهل أسر 3 جنود يحق لنا أن نفاخر ونفتح الفضائيات متلذذين بتدمير بلد بأكمله؟ وهل هذا لا يزيد إسرائيل إلا قوة وعنتاً، ويفتح شهيتها إلى مزيد من العسف والإرهاب؟ نحن-كما قلت نختلف- وهذه طبيعة الحياة، ولو كان الأمر بيدي، لظللت أضغط سياسياً حتى يُفك أسر المواطنين المسجونين في السجون الإسرائيلية، دون أن أغامر بتدمير بلد بأكمله، لم يسترجع عافيته إلا قبل سنوات معدودات! نحن -كعرب- نُعجب بأدوار البطولة، ودوماً تجدنا نحب "الترزز" في الصفوف الأمامية في الاحتفالات والمسرحيات. ومع تقديرنا لدور المقاومة في جنوب لبنان، وما حققه "حزب الله" من انتصارات، استرجع لبنان كامل أراضيه، باستثناء مزارع شبعا (المُختلف عليها عربياً وإسرائيلياً) إلا أن ثمن النصر الأخير كان خسارة للبنان واللبنانيين، هذا إذا كنا قد تخلينا عن العاطفة، ودغدغة الوجدان بالكلمات الجميلة، إذ أن الأمور لا تؤخذ بهذه الطريقة. لقد كنت في لبنان عندما بدأت الحكاية الأخيرة، وهي كما كانت عام 1975 أو عام 1982 عندما امتدت يد الإرهاب-بقيادة شارون- إلى لبنان، وبدأت هذه اليد تمزيق البلاد، وحرق الأخضر واليابس. لقد شاهدنا منظر قصف المطار من النافذة، ولمست اهتزازات الجبل من قوة التدمير، الذي طال قرى الجنوب والضاحية، لقد نزحت-كغيري- إلى سوريا، وكانت المعاناة أكبر على الحدود! المهم أننا أمام مأزق البطولة والعنفوان والثورة على الظلم، ومأزق الثمن والخسارة! هل فعلاً يوافق اللبنانيون على ثمن أسر الجنديين؟ هذا لا يمكن قبوله من الفضائيات "المحرضة" والمتوترة! بل من صناديق الاقتراع! دعونا من المجاملات، وأحاديث الإذاعة. ثم أين القانون الدولي الذي يجب أن يحكم علاقات الدول؟ هل تسمح مثلاً الولايات المتحدة، بتواجد أساطيل وبوارج كورية أو صينية أمام شواطئ نيويورك؟ وهل تسمح بريطانيا بأن تحلّق طائرات إيرانية فوق مدنها مخترقة المجال الجوي؟ أعتقد أنها سوف تُسقط الطائرات قبل التحقق من هويتها، إذ أن سيادة الدولة لا يمكن أن تُمس! فلماذا "يبارك" بوش، أو ينتفض مجلسه الموقر لدعم إسرائيل على كل ما قامت به، ويكرر زجّ اسم سوريا في المعترك؟ نحن هنا لسنا في محل طرح التوازنات ولعبات المصالح، كما أننا ندرك أن لإيران دوراً في تأجيج الصراع، ولو أتى عبر "العاطفة" الدينية التي تبثها في عروق "حزب الله"، وهذا موضوع أبعد عن الثمن والخسارة الذي نحن بصدده. مجلس الجامعة العربية- وهو لا يهش ولا ينش- كما يقول المثل، أعلن خلاله الأمين العام عمرو موسى عن موت عملية السلام، بينما كان لبنان يموت أيضاً، وكان على مجلس الجامعة إقامة صلاة الغائب على لبنان. بيان مؤتمر وزراء الخارجية الأخير في القاهرة، صيغ بعناية فائقة بحيث لا يخرج عن مواقف الدول "المؤثرة" في الجامعة. وهي دول يراها البعض أنها تدين "إدانة مبطّنة" لـ"حزب الله" ونشاطاته التي وصلت إلى عمق إسرائيل. الدعوة إلى بسط سلطة لبنان على كامل التراب الوطني، أيضاً واضحة وتقصد وقف نشاطات "حزب الله". حديث وزير الخارجية السعودي (سعود الفيصل) لم ينج من انتقاد سواء خلال بداية الأزمة أم بعدها (الشرق الأوسط 19/7/2006)، (نحن لم نتهم طرفاً بعينه، ولكن الهدف عندما ندخل في صراع، نحسب حساباتنا جيداً، وأهم شروط السيادة لأي دولة هو قرار الحرب والسلم، ولذا لم تكن للدولة السلطة في هذا القرار عمت الفوضى وجلب الدمار، وأمور الحرب والسلام لا تؤخذ ببساطة، وهذا هو فحوى موقف السعودية من هذا الموضوع). وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، أسعد العرب كثيراً، ومما قاله وتناقلته الصحف السورية يوم 16/7/2006: (في هذا الظرف الخطير لا نستطيع أن نحكم دولنا بدون الشارع العربي، ولا نستطيع أن نتجاوز هذا الشارع بدعوى مواقف استراتيجية، لماذا لا نعود للتاريخ؟ هناك مسببات لما يحصل من عدوان إسرائيلي، وإننا كحكومات نخسر، لأنكم لا تقولون شيئاً لإسرائيل. السؤال الآن: هل ننفذ التعليمات الأميركية، أم نتحد نحو استراتيجية عربية يحترمنا فيها الشارع العربي ونحترم أنفسنا)؟ لا نود أن نخوض في برامج الفضائيات، وصراخ الذين يعيشون اللاوعي السياسي، إن من يقارن بين تصريح وزيري الخارجية السعودي، والقطري، يجد -دون أدنى شك- مواقف متباينة حول رؤية كل منهما لما يدور في لبنان، خصوصاً مسألة وقف نشاطات "حزب الله"، واليد الأميركية الخفية التي تلعب تحت الطاولة. وقت كتابة هذا المقال (الأربعاء 19/7/2006) كان قد سقط أكثر من 50 شهيداً مدنياً في لبنان، مقابل قتيلين في إسرائيل. وكانت تقديرات الدمار الذي ألحقه القصف الإسرائيلي في لبنان، وصلت في هذا اليوم إلى أكثر من 3 مليارات دولار! ناهيك عن النزوح الجماعي، خصوصاً بعد اجتياز الجيش الإسرائيلي للحدود اللبنانية لتعقّب أفراد "حزب الله". كما تواصلت عمليات الاعتقال في نابلس وغزة، وقد يكون عدد الأسرى أكبر بكثير مما ينوي "حزب الله" مبادلة الأسيرين بأعداد من الأسرى العرب في السجون الإسرائيلية. وهذا يجب أخذه في الاعتبار عند الحديث عن مفاهيم الربح والخسارة، أو الثمن والخسارة في الملف اللبناني. وعشية تقدم قوات الاحتلال إلى الجنوب -حيث يذكرنا المشهد بحالة الاجتياح عام 1982- يعلن "خافيير سولانا"، المنسق الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي-وبانحياز تام- إدانته خطف الجنديين الإسرائيليين من قبل "حزب الله"، ولا يشير إلى خرق إسرائيل للمواثيق الدولية، واعتدائها على بلد عضو في الأمم المتحدة، وصديق أيضاً للاتحاد الأوروبي، بل ويتغافل عن الخمسين شخصاً الذين قضوا نتيجة القصف الإسرائيلي المدمر، كما أنه لم يتطرق إلى قيام الجيش الإسرائيلي باعتقال العشرات في نابلس وغزة. وزيرة الخارجية الأميركية "رايس" أعلنت أنها "تصلّي من أجل لبنان"، لا ندري إن كانت تلك صلاة الجنازة على ذلك البلد المرحوم، أم أنها تريد تغليف موقف الولايات المتحدة بـ"سوليفان" الدين! كان يجب على "رايس" أن تصلي من أجل الشهداء، ومن أجل قتل معالم الحضارة في لبنان، وتدعو الرب، بأن يصدر بيان أميركي يوقف يد العدوان عن لبنان، لا مواقف إشادة ودعم لاستعادة شخصين، كل مؤهلاتهما أنهما يحملان الجنسية الإسرائيلية، وكأن الجنسيات الأخرى لا تستحق الحياة، وبالتالي فإن الصلاة عليهم لا تجوز في عرف "رايس". نحن نقول إن حسابات الربح والخسارة في الملف اللبناني يجب أن تكون واضحة، وعلى الجميع احتساب الأرباح والخسائر بعقلانية لا عبر الفضائيات. فلبنان الذي ساهم في بنائه الشهيد الحريري أكثر من 15 عاماً، يعود إلى الوراء عشرين عاماً أو أكثر، ولا يوجد حريري آخر، سوى ابنه الذي يتخطفه الموت كل لحظة. وبغير (حريري) لا نعتقد أن لبنان سيعود قريباً إلى سابق جماله ورونقه، ففي زمن الحروب "تُضِلُّ" كثير من الإعانات طريقها (وأفهموا كيفما تشاؤون). ثم من قال إن لبنان وحده ضحية العربدة الإسرائيلية؟ إن دول الخليج هي أكثر الدول تضرراً، ذلك أنها هي التي ستدفع فاتورة إعادة إعمار لبنان! كما فعلت في السابق. أما بعض الزعماء العرب الذين يؤيدون الموت، وهم "متمترسون" خلف الفضائيات، فهم يبيعون الوهم للبنان وللشعب العربي بأكمله. ولو كانت هنالك عدالة دولية لجاز لدول الخليج أن تشتكي على إسرائيل، وما قامت بهدمه من منجزات الدولة اللبنانية، وساهم الخليجيون فيه. لبنان الثمن والخسارة حتى الآن ضد لبنان! ورئيس الوزراء الإسرائيلي قال إن العدوان سيستمر إلى ما لا نهاية! فمن هو الطرف الرابح؟ ومن هم الخاسرون؟ وكيف نواجه حقيقة أنفسنا بالعقل لا العاطفة؟ أسئلة حتماً لابد وأن يجيب عليها حسن نصر الله ، مع كل التقدير لنضاله البطولي في استعادة أجزاء الجنوب الممزق، ومواقفه الواضحة من الكيان الصهيوني العابث.