ما عادت هناك حاجة لجدل نظري أو سياسي حول تعدي أهداف إسرائيل في حربيها ضد لبنان وقطاع غزة مسألة تحرير جنودها الأسرى. فحجم ووحشية الردود واتساع نطاقاتها, وهي ردود غير مرشحة للتوقف الفوري على أية حال, تشي بانبعاث نوع قديم من التصهين لكنه هذه المرة محمل بمطامح تفوق قدرة الفكرة الصهيونية على تحقيقها مهما ملكت من قوة باطشة. الفكرة القديمة الحاملة للتصهين المتجدد هي فكرة "الجدار الحديد"، والذي من الضروري والحتمي أن تقيمه الصهيونية على أرض فلسطين بينها وبين العرب. والجدار المقصود هنا هو فكرة رمزية تعني خلق إسرائيل بالغة القوة وليس بإمكان "أعدائها العرب" أن يحلموا بمجاراتها في مجال البأس العسكري. وهم لن يتنازلوا عن المطالبة بحقوقهم إلا بعد أن يتحطموا تماماً جراء مداومة الاصطدام بذلك الجدار في محاولاتهم الدامية لهزيمة إسرائيل باستخدام القوة. الجدار, أي القوة العسكرية الباطشة, هو الذي سيهزم العرب، ليس فقط على صعيد الاحتفاظ بأرضهم التي اغتصبت, بل على صعيد الفكرة والحلم والأمل. كلما دمي العرب أكثر وأدموا رؤوسهم في محاولتهم تحطيم الجدار, كلما صاروا جاهزين للاستسلام أكثر. فكرة "الجدار الحديد" إذن هي أبعد وأكثر تعقيداً من التجسيد العملي الفج لبعض جوانبها كما في إنشاء جدار العزل العنصري الذي أقامته إسرائيل في السنوات الأخيرة. نظرية "الجدار الحديد" بصيغتها التقليدية القديمة صاغها جابوتنسكي أحد أهم زعماء اليمين الصهيوني قبل قيام إسرائيل لتنظم الإدراك الصهيوني لطبيعة العلاقة مع العرب. وتبناها بن غوريون والطبقة السياسية المسيطرة في الحركة الصهيونية ثم في قيادة إسرائيل. لكن صيغتها المعاصرة والتي تتبدى تجلياتها الآن في الحرب على لبنان وقطاع غزة والضفة الغربية تحمل عناصر جديدة, يمكن النظر إليها وكأنها محاولة لعولمة النظرية وفرضها على العالم أجمع وليس فقط على العرب والفلسطينيين. العناصر الجديدة تعيد بالطبع إنتاج الفكرة التقليدية وهي إرهاب العرب وتحطيم إرادتهم السياسية وقمع فكرة مقاومة "الجبروت الإسرائيلي الذي لا يقهر". وبالتالي يخضعون للإملاءات والشروط "والأمر الواقع" الإسرائيلي! لكن الجديد الذي يحمله الإنتاج المعاصر للنظرية يكمن في إرهاب العالم من تأييد الفلسطينيين من جهة, وخلق قناعة راسخة لدى الدول الكبرى مفادها أن الرد الإسرائيلي على أي مقاومة عربية أو فلسطينية سيكون باطشاً, ولهذا فإن على العرب والفلسطينيين أن يوفروا على أنفسهم التضحيات والتبعات ويقبلوا بـ"الأمر الواقع". "الجدار الحديد" المعولم الآن يقول للعالم: لا يهم شجبكم وتنديدكم وهو لن يؤثر فينا شيئاً, عليكم أن تقبلونا, تقبلوا إسرائيل, كما هي؛ جبروتية, تبيد الأخضر واليابس, تحرق المدن والقرى, تستهدف المدنيين وتقتل منهم المئات وتجرح الآلاف, وتدمر محطات المياه وجوانب الحياة الأساسية لشعوب بأكملها من أجل إنقاذ ثلاثة من جنودها. عليكم أن تقبلوا وتتكيفوا بوجود إسرائيل المستعدة لشن حرب لأتفه سبب وحتى لم يعرف أحد, بما في ذلك إسرائيل نفسها, كيف يمكن أن تنتهي. الحل الوحيد أمامكم جميعاً, على حدود إسرائيل, وما وراء تلك الحدود, والعالم بأسره, هو ليس فقط أن لا تستفزونا, بل وأيضاً أن تبلعوا استفزازاتنا ولا تردوا عليها. إن قتلنا مدنييكم محرم عليكم قتل مدنيينا, إن حرقنا مدنكم بالصواريخ والقنابل محرم عليكم الرد, وعلى العالم أن يعي هذه المعادلة. الصيغة المعولمة "للجدار الحديد" لن تحقق النجاح الذي حققته الصيغة المحلية الإقليمية. فالصيغة الإقليمية تعاملت مع العرب كأنظمة وجيوش, لكن ضعف الصيغة الجديدة يكمن في عدة جوانب؛ أولها تزايد افتراق الأنظمة عن الشعوب في المنطقة العربية المهزومة, وبذلك فخضوع الأنظمة لم يعد يعني الخضوع الكامل للشعوب وتعبيراتها المختلفة. فخلال عقود الهزائم الماضية كان أن أقرت الأنظمة, والتي لم تدمِ رؤوسها بالجدار أصلاً, بجبروته وبطشه. وأيقنت باكراً بأنها لن تهزم إسرائيل عسكرياً, ولهذا قدمت تنازلات كبيرة وأعلنت عن استعدادها للعيش مع الأمر الواقع والاعتراف به. لكن غطرسة الجدار كانت قد وصلت إلى الحد الأقصى على رافعة توالي الهزائم العربية, وهو الحد الذي تصله أي قوة باطشة إذا اختلطت بنظرية عنصرية. وبسبب تلك الغطرسة فإن إسرائيل لم تقبل عملياً بتنازلات الأنظمة. فهي من ناحية ظلت تتفاجأ، واقعة إثر واقعة، بهشاشة عدوها واستعداده السريع للخصوع لمنطق الجدار والانضباط باكراهاته. ومن ناحية ثانية أغراها أن تنظر للتنازلات التي قدمت لها بمنطق غرور وعجرفة المنتصر, وليس بمنطق من يريد اغتنام فرصة تنازل الخصم ليصل إلى معادلة "ما بعد الجدار". لكن في ذات الوقت الذي لم تقبل به بتنازلات الأنظمة وتتعامل معها برؤية "ما وراء الجدار", لم تكن تعرف ماذا تريد وما هي الأجندة التي تطالب بها الأنظمة المهزومة. قاد ذلك بالطبع إلى التعرية والإنهاك التدريجيين في شرعية الأنظمة العربية التي تعاني أصلاً من نقصان فادح فيها ومن دون تدخل عامل الإذلال الإسرائيلي إبتداءً. وما نراه الآن في فلسطين ولبنان هو انفلات الرد الشعبي عن قدرة النظام الرسمي العربي على الإمساك بزمام الإخضاع لمنطق الجدار. صار الافتراق بين الشعبي والرسمي أكبر من قدرة الأمر الواقع على تحمله, لذلك نرى أن السياسة صارت تنتج فصولاً غرائبية مدهشة. فمن قلب عملية "أوسلو" وآلياتها, المتوجة للخضوع الرسمي والفلسطيني, فازت "حماس" ومنطق المقاومة بانتخابات لم تكن لتحصل أصلاً لولا "أوسلو". ومن قلب آليات إخضاع سوريا ولبنان الرسميين على مدار عقود بواسطة الجبروت العسكري, خرج "حزب الله" ليحرر الجنوب اللبناني, والآن ليكون هو الطرف الأساسي المدافع عن لبنان. الحرب في لبنان وفلسطين أبعد بكثير من مسألة تحرير جنود أو تلقين درس لحركات المقاومة. هدفها هو توسيع منطق "الجدار الحديد" ليس ليشمل المنطقة (بما فيها إيران طبعاً) بل والعالم أجمع. إسرائيل ليست هنا لتبقى وحسب, بل لتبطش من دون رادع. لكن ما ستجره عولمة "الجدار الحديد" على إسرائيل سيكون عداءًً عالميا جديداً. فكما حدث الافتراق التدريجي بين رد الفعل الشعبي والرسمي على المستوى العربي على نظرية الجدار وعنصريته, يحدث الآن وبشكل تدريجي أيضاً افتراق بين الرأي العام العالمي ورأي الحكومات إزاء إسرائيل. إسرائيل أصبحت ترُى بوضوح أكثر بكونها دولة عنصرية وباطشة ومتوحشة. وكما تشير استطلاعات رأي كثيرة فإن النظرة إليها تزداد سلبية, ويُنظر لها على أنها مصدر تهديد وخطر للأمن والسلم العالميين. وما ستجره عولمة نظرية الجدار الحديد على اليهود عالمياً سيتمثل في تغذية نزعات العداء لليهود كيهود في العالم وتوفير العتاد الكافي لتيارات اللاسامية. وطالما استمر السكوت اليهودي العالمي على جرائم إسرائيل والصهيونية فلنا أن نتوقع حقبة قادمة سوداء على أكثر من مستوى, يتقدمها جميعاً تعميق الصهيونية للاسامية في العالم. فلسطينياً وعربياً, المهمة الأكبر تتمثل في عدم توفير المسوغات لإسرائيل وللصهيونية كي تهربا من الانكشاف التام. كلما كانت المقاومة نظيفة وإنسانية وذات بوصلة واضحة، كلما كشفت وحشية خصمها وساعدت نفسها والآخرين على هزيمته. على هذه المقاومة أن تساعد العالم على رؤية نظرية الجدار الحديد بصيغتها العنصرية الجديدة, والتي لا يمكن أن تحتملها أية مجتمعات في أي بقعة في العالم، إن اضطلعت على تفاصيل ما يجري وفهمته.