تعاني دول مجلس التعاون الخليجي ظاهرة نادرة هي "الانقراض"، وقد انتشرت هذه الظاهرة بشكل غير مسبوق في العقدين الماضيين، ولا نعني بالانقراض هنا تناقص عدد المواطنين فقط؛ ولكن انقراض القيم والتقاليد والأعراف والثقافة واللغة واللهجات وغيرها من السمات والخصائص التي تميز شعب الخليج عن باقي شعوب الكون أيضاً، بل ربما نصحو ذات يوم، قد يكون قريباً بأكثر مما نتصور، لنجد أن في هذه الدول مستوطنين من جنوب شرق آسيا، فرضوا ثقافتهم وتقاليدهم ولغتهم، بينما أصبح السكان الأصليون أقليات تبحث عن حقوقها الضائعة والمفقودة وتواجه خيارات الترحيل والإقصاء. لا نبالغ إذا قلنا إنه توجد دول خليجية تصل نسبة المواطنين فيها إلى 15% من إجمالي عدد السكان، وفق إحصائيات موثوق بها، بل من الغريب والمدهش أن هذه النسبة (الخمس عشرة في المئة) ليست كلها من المواطنين الأصليين الذين تربوا وترعرعوا على أرض الأجداد، لأن منهم من تزوج بأجنبية سواء غربية أو شرقية أو عربية، فباتت لأولاده سمات خاصة في الشكل لا تنتمي إلى فروع الأجناس العربية الخليجية، ومنهم من تم تجنيسه في عصور سابقة لأسباب أمنية أو سياسية أو اقتصادية، ولكن أصوله تنتمي لأجناس غير عربية. وإذا كان هناك من يتحدث عن خلل في توازن التركيبة السكانية، فهناك من يرى أنه وضع مؤقت من السهل السيطرة عليه، غير أن الحقائق الديموغرافية على أرض الواقع تشير إلى حالة من ارتباك التركيبة السكانية بل وانهيارها. ما الذي أوصلنا إلى هذا الوضع الكارثي الذي يهدد الأمن القومي لدول مجلس التعاون الخليجي بأبعاده كلها؟ وماذا يحمل لنا المستقبل من مفاجآت أخرى في هذا الشأن؟ وهل هناك من سبيل لعلاج الأمر ومنع تفاقمه إلى حد الانقراض؟ أسئلة كثيرة وغيرها قد لا تعبر بصدق عن حقيقة هذا الهم الخليجي الكبير، الذي سنحاول جاهدين أن نطرح إجابة عنه ربما تكون سبباً لإثارة النقاش الخليجي الوطني الجدي حول هذا الموضوع الشائك والمعقد لنتفق على استراتيجية وطنية لمواجهته. هناك عوامل وأسباب عدة تكمن وراء عملية انقراض شعب الخليج من أهمها: * الأبواب المفتوحة على مصراعيها بلا رقيب ولا حسيب لاستقدام العمالة المتدنية المهارة، في ظل تضارب القوانين والتشريعات المنظمة لهذه العملية أو غيابها أصلاً، الأمر الذي يشير حتماً إلى استمرار هذه العملية في المستقبل تحت زعم الحاجة إلى استكمال البناء، ولكن الجانب الآخر للعملية يوجه أصبع الاتهام للتجارة الرائجة في التأشيرات، وجشع شركات البناء في التوسع غير المحسوب في أنشطتها وبأكثر من قدراتها، وقيامها بالعمل في أكثر من مشروع عقاري في الوقت الواحد، وضعف رقابة المؤسسات والأجهزة المنوط بها تنظيم سوق العمل والعمال في دول مجلس التعاون. * ارتفاع نسب العنوسة والطلاق بين النساء في دول مجلس التعاون، وهما وجهان لعملة واحدة تقود إلى خفض معدلات المواليد، حيث يقدر متوسط نسب العنوسة في دول مجلس التعاون بأكثر من 39%، بينما تصل نسبة الطلاق إلى نحو 42%، وهذا يقود إلى تساؤل مهم حول أسباب عزوف الشباب عن الزواج من المواطنات الخليجيات من جانب؟ وأسباب انتشار ظاهرة الطلاق من جانب آخر؟ وإذا كان بعضهم سيزعم أن السبب الرئيس هو ارتفاع تكلفة الزواج، فإن هناك دولاً خليجية تقدم مساعدات مالية سخية للشباب لتشجيعهم على الزواج، وأقامت صناديق لهذا الغرض يتم دعم ميزانياتها بشكل مستمر، ورغم ذلك لم تتأثر نسبة المتزوجين بالقدر الذي يحل المشكلة، وبعضهم الآخر يشير إلى ارتفاع مستوى المعيشة وتكلفة تربية الأبناء، وهذا الأمر يحتاج إلى الدراسة والبحث لتحديد مستوى الدخل المناسب للمواطن ليعيش حياة كريمة في عصور النفط والرفاهة؛ تقوم به الأجهزة المعنية بالأوضاع الاقتصادية والتخطيط في دول المجلس، أما الذين يرجعون الأمر إلى السمة "المحافظة" في الخليج والتي لا تتيح للشباب من الجنسين فرصة التعارف والتقارب تمهيداً للزواج، فإن هذا الأمر مردود عليه بوجود الأهل من النساء والمكاتب المتخصصة الموثوق بها للجمع بين أطراف "شركة الزواج". * انتشار الزواج من أجنبيات، وعلى الرغم من تفاقم هذه الظاهرة فلا توجد بيانات يمكن الاعتماد عليها لتقييم حجمها حتى الآن، إلا أن تداعياتها خطيرة على التقاليد والأعراف والثقافة واللغة في الخليج، وتقود في النهاية إلى أطفال "مسخ" ليس لهم ولاء سوى للمادة أو للدولة التي تنتمي إليها الأم، لأن المجتمع الخليجي يرفض زواج ذرية هؤلاء من عائلات "أصلية" المواطنة؛ ما يدفع هؤلاء إلى الاستمرار في الحلقة المفرغة والزواج من أقارب الأم الأجنبية فيزداد الطين بلة، وينطبق الوضع نفسه على المواطنة التي تتزوج من أجنبي، ومما يزيد من حجم الكارثة أن أكثر من 64% من مواطني الخليج هم في سن الشباب، فماذا سيحدث لو اتجه معظمهم إلى الزواج من الأجانب؟ * ارتفاع نسبة البطالة بين مواطني الخليج، وما يزيد من عمق المشكلة عدم وجود أي توافق بين ما تخرجه الجامعات والمعاهد من تخصصات ومتطلبات سوق العمل، فضلاً عن تفضيل القطاع الخاص لتشغيل الوافدين نظراً لقلة رواتبهم، ناهيك عن احتكار جنسيات بعينها لبعض الأنشطة والقطاعات الاقتصادية المحلية، بالإضافة إلى التوزيع القطاعي المختل لقوة العمل المواطنة. كل هذا يجعل المواطن أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التسليم بالأمر الواقع والاستسلام لقدره والاعتماد على الأبوين في توفير متطلباته الشخصية... وفي هذه الحالة لن يسعى إلى تكوين أسرة، وربما يصاب بالأمراض ويعاني الشيخوخة المبكرة، وإما الرحيل إلى مكان آخر قد يجد فيه عملاً يتناسب مع مؤهلاته... وفي هذه الحالة سيستقر ويكوّن أسرة هناك ويصبح من "الوافدين". من المؤكد أن للموضوع أسباباً أخرى عديدة مثل الخلل الكبير في توازنات سوق العمل وضعف استراتيجيات التوطين وعدم اهتمام الحكومات بكارثة التركيبة السكانية، وقناعة بعضهم بأن الوضع لا يزال تحت السيطرة، ولكن كثرة الحجج والتذرع بالأسباب الواهية سيقود في النهاية إلى حقيقة قاسية وهي "انقراض شعب الخليج". لقد دارت عجلة الزمن وبدأنا نرى مظاهر من حولنا تؤكد تسارع عملية الانقراض، حيث تم "الانقراض الثقافي والمسخ الإعلامي"، وتحقق "الانقراض اللغوي"، وصاحبهما عملية "انقراض في التقاليد والأعراف"، ناهيك عن انخفاض معدلات المواليد في كثير من دول مجلس التعاون، فماذا ننتظر؟ سؤال نتوجه به إلى المعنيين بالأمر كلهم. لقد أصبحت الخيارات المتاحة واضحة، ولكل منها مزايا وعيوب ويبقى القرار متى يمكن مواجهة الكارثة: الخيار الأول: أن تتحمل الحكومات مسؤولياتها وتعالج الأسباب الكامنة وراء الكارثة، وهذا يعني صياغة استراتيجية شاملة ثلاثية الأبعاد تشجع الزواج بين المواطنين، وتعالج الخلل في سوق العمل، وتحافظ على الأعراف والتقاليد الخليجية. الخيار الثاني: أن تستمر الأوضاع على ما هي عليه، ما سيؤدي إلى تسريع عملية الانقراض من خلال استغلال الثغرات التشريعية والقانونية، وتخاذل الجهات المسؤولة عن حسم الموضوع، والمجاملات على حساب أمن الوطن والمواطن. الخيار الثالث: رحيل المتبقي من شعب الخليج إلى "محميات بشرية" خارج المنطقة، للحفاظ على القيم والنوع والجنس الخليجي؛ وهنا سيقع على عاتق الحكومات مسؤولية القيام بعملية فرز دقيق للغاية لتحديد المواطن "الأصلي" وليس وارد تايوان أو صناعة الفلبين أو تجميع الصين. الخيار الرابع: طلب المتبقي من شعب الخليج حق "اللجوء السياسي" إلى أي من دول العالم، وسيجدون من يرحب بهم شرط أن يحملوا معهم نفطهم وغازهم الطبيعي. نتوجه بهذا المقال إلى الجهات المعنية بالكارثة، وإلى شباب المواطنين، ليتحملوا مسؤوليتهم الوطنية ويضعوا الحلول قبل أن يصبحوا وافدين في دولهم أو في دول أخرى.