إن عمليتي أسر الجنود الإسرائيليين التي قامت بهما المقاومة الإسلامية (حزب الله) وبعض منظمات المقاومة الفلسطينية، أثارت تساؤلات كثيرة وفجرت ردود فعل متفاوتة تتراوح، بشكل عام، بين التأييد "الجماهيري" المطلق والمعارضة الرسمية الشديدة من بعض الحكومات العربية. غير أننا نجد بين هذين الموقفين المتباعدين وجهات نظر أخرى متسلحة بشيء من التحفظات أو الملاحظات، فما هو موقف المعارضين؟ وما هو موقف المؤيدين؟ وما هي وجهات النظر الأخرى من هذه الظاهرة؟ إن كل عملية عسكرية داخل أراضي العدو، يجب أن تخضع لميزان الأرباح والخسائر، أي لمدى ما يجنيه الطرفان المتنازعان، من وراء هذه العملية، من أضرار أو مكاسب عسكرية وسياسية واقتصادية. ولو أخضعنا عملية أسر الجنود الإسرائيليين (الثلاثة) لهذا المقياس لوجدنا حصيلتها، على الرغم من استئثارها باهتمام الرأي العام العربي والعالمي، لم تكن في صالح الشعبين اللبناني والفلسطيني، لأن جوانبها السلبية قد فاقت بكثير جوانبها الإيجابية. إن الجهة الوحيدة التي يمكنها أن تقرر ما إذا كان من مصلحة المقاومة، في لبنان وفي فلسطين، عسكرياً وسياسياً، توسيع نشاطها وأسر جنود للعدو، هي قياداتها السياسية (أي الحكومات)، لأن هذه القيادات تعرف (أو يفترض أن تعرف) أموراً لا تتوفر لغيرها، ولأنها تتصرف (أو يفترض أن تتصرف) حسب الإمكانيات المتوفرة والاحتمالات المتوقعة، وفي ضوء الضرورات والخيارات المرحلية للمقاومة. ولكن المؤلم أنه ليس للمقاومة (في لبنان وفي فلسطين أيضاً) حكومات قوية بعد، وإلى أن تنشأ هذه الحكومات، فمن الأفضل لها (أي المقاومة)، في الظروف الراهنة، ألا تورط نفسها وبلادها بأعمال لا تقوى عليها. إن القيام بمثل هذه الأعمال سيفضي حتماً إلى فتح جبهة، وربما جبهات، مع العدو في وقت لا تزال فيه قوته أكبر وأصلب من قوتنا. وإن غالطنا أنفسنا وغامرنا، كنا كمن يرمي نفسه في معركة يعلم مسبقاً أنها خاسرة. إن أسر جنود العدو، حرضه على القيام بأعمال انتقامية ضدنا فرد الصاع صاعين أو أكثر. ألم يقتل المدنيين وينسف الجسور ويضرب المطارات والموانئ البحرية، ويدمر البنية التحتية والمنشآت الاقتصادية... في لبنان وفلسطين؟ إن هذه الأعمال قد يكون من نتائجها التلاعب بمشاعر الجماهير العربية والإسلامية، التي استبشرت خيراً بأسر جنود العدو، وأعطى تلك الجماهير، عن طريق الدعاية التي رافقت تلك العمليات، صورة خاطئة عن إمكاناتها، فخيل إليها أن نجاح المقاومة مرهون بزيادة عدد الجنود المأسورين أو الاحتفاظ بهم. تلك باختصار وموضوعية، وجهة نظر المعارضين، فما هو الآن موقف المؤيدين؟ إن المؤيدين يتهمون المعارضين بالاغراق في اللاوقعية وبالتهرب من المسؤولية، والاختباء وراء منطق أصبح مرفوضاً ومنبوذاً، لأنه يبشر بالخنوع والانهزامية التي تشجع العدو على التمادي في عدوانه. إن تعميم هذه الأفكار من شأنها، لو سادت، أن تحول العرب (إن لم تكن قد حولت بعضهم) إلى أمة بائسة. إنهم يرثون لحال المعارضين الذين يفكرون بعقلية أنانية ويجهلون فهم معتقدات ومشاعر أمتهم وطبيعة عدوهم الذي لن تكون أهدافه محصورة في رقعة جغرافية محددة. وبعد أن تأملنا الجهات التي تمد "إسرائيل" بالأسلحة التدميرية وبالدعم السياسي، وتشل حتى عمل الأمم المتحدة دفاعاً عن عدوانها، ألا تقضي الشهامة والكرامة العربية باتخاذ موقف ضد هذه الجهات؟ وما دام لهذه الدول مصالح ضخمة في العالم العربي تحرص على بقائها، لماذا لا تمارس الحكومات العربية نفوذها على تلك الدول لإرغامها على تغيير سياستها أو على اتباع سياسة حكيمة تضمن استمرار هذه المصالح؟ هل رفع الظلم عن اليهود المضطهدين في الغرب لا يكون إلا بإنزال ظلم آخر بشعوب بريئة في الشرق؟ وبعد هذا الانحياز من دول الغرب، كلها تقريباً، ضد الحقوق العربية الثابتة، هل يشك أحد منا بعد الآن في سبب استفحال أمر "إسرائيل"؟ إزاء المظالم والجرائم اليومية التي يرتكبها العدو، كان العرب بحاجة إلى روح جديدة وآمال جديدة، فجاءت الأعمال النوعية التي نفذتها المقاومة كحوافز ترفع من معنوياتهم وتهز ضمائرهم وتفكيرهم وسلوكهم، وتبشرهم بولادة الإنسان العربي الذي أخذ يتمرد على الواقع ويتحدى العجز، وكانت حوادث أسر جنود العدو في طليعة تلك الأعمال. ثم إنه، هل يحتاج التصميم على مجابهة العدو، دفاعاً عن الشرف والبقاء، إلى حسابات طويلة ودراسات لا تنتهي للقوة الذاتية وقوة الخصم؟ ألا تستمد إرادة المجابهة ورد الاعتداء من إرادة الحياة الحرة الكريمة، ومن الإيمان بحتمية انتصار الحق على الباطل. هل قارن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بين إمكانياته وإمكانيات الكفار عندما بشر بدعوته؟ هل فكر السيد المسيح في قوته وقوة خصومه عندما حمل الرسالة؟ ولكن هناك وجهات نظر أخرى صريحة وعنيفة، تؤكد أن الخاسر الأكبر في هذه الحرب هو النظام السياسي العربي الذي أخفق في تحمل مسؤولياته القومية، وهذا الموقف سيعرضه لأقسى وأصعب مواجهة مع القوات الحية في المجتمع العربي، التي ترى أن الضياع الذي تعيشه الأمة لم يكن إلا انعكاساً لنفسية حكومات قامت وتقوم على أسس بالية وبعيدة كل البعد عن عصرنا ومجتمعنا. ولم تكن مواقف بعض الحكومات العربية من الأحداث والاعتداءات على لبنان وفلسطين، إلا نتيجة حتمية لهذا الواقع الأليم الذي يتطلب تغييراً جذرياً وشاملاً!