القنطار ومصير لبنان... من "نهاريا" إلى "نفحة"! أهوال الحملة العسكرية الإسرائيلية على لبنان وما تلحقه من دمار ببلد لم يكد ينسى مآسي الاجتياحات وسنوات الحرب الأهلية الطوال، قد تهز توازنات الداخل اللبناني وتقوض خرائطه، وربما أيضاً تربك خطابات كانت صاحبة الصوت الأعلى حتى وقت قريب! فالدمار والخراب والموت المنتشر... كل ذلك المشهد بدأ يحجب وراء أدخنته قضية تحرير الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية، بعد أن كان موضوعهم أهم مادة للسجالات اليومية بين أطراف الطيف السياسي، بل قضية القضايا في الخطاب الإعلامي لـ"حزب الله" تحديداً، وبعض حلفائه أيضاً! فاثر العملية التي نفذها مقاتلو "حزب الله" يوم 12 يوليو الجاري وأسفرت عن أسر جنديين إسرائيليين، واختار الحزب لها اسم "الوعد الصادق"، إشارة إلى الوعد الذي قطعه أمينه العام حسن نصر الله للأسرى اللبنانيين والعرب، بالعمل من أجل إطلاق سراحهم... قال نصرالله إنه "لا أحد في الكون يرد الأسيرين إلى ديارهما المغتصبة، إلا بالتفاوض من أجل مبادلتهما بالأسرى اللبنانيين". والأسرى اللبنانيون ثلاثة، هم: يحيى سكاف، المولود بشمال لبنان عام 1959، وقد أسر في مارس 1978 خلال عملية نفذها مع مجموعة بقيادة دلال المغربي. ونسيم نسر المولود في قضاء صور لأب لبناني وأم يهودية، والذي حصل على جنسية إسرائيل بعد ما دخلها عام 1992، لكنها اعتقلته في عام 2002 بتهمة التجسس لحساب "حزب الله". أما الثالث فهو سمير القنطار الذي يعد عميد الأسرى اللبنانيين وأقدم أسير عربي في السجون الإسرائيلية. وهو يحظى بالاحتفاء والتمجيد في وسائل الإعلام التابعة لـ"حزب الله"، وربما أصبح الآن أشهر معتقل في العالم. وكما يستشف من رسائله التي يبعثها بين حين وآخر من داخل السجن، فإنه صاحب آراء سياسية تميل للتشدد ونبذ التفاوض والتسوية السلمية مع إسرائيل، إذ لم تزده 28 عاماً من الاعتقال، إلا تمسكاً بفكرة "التناقض الجذري مع إسرائيل"، وذلك ما يتضح من رسائله إلى بعض الشخصيات السياسية والإعلامية اللبنانية؛ ومنها رسالته الشهيرة إلى وليد جنبلاط والتي عاتبه فيها على موقفه من "المقاومة"، قائلاً: "أنا الموقِّع أدناه سمير القنطار، ابن مدرسة كمال جنبلاط وجمال عبد الناصر، ابن جبل العروبة الذي أنبت حماة الثغور، أعلن بأن أي كلام تخويني بحق سلاح المقاومة وبحق الأخوة في حزب الله يطالني في الصميم وهو طعنة عميقة أصابتني بجرح لن يندمل إلا حين تعود إلى موقعك الطبيعي؛ وليد جنبلاط حفيد شكيب أرسلان وابن كمال جنبلاط، سليل الجبل الذي لن يكون إلا جبل المقاومة". وقد وقَع القنطار أسيراً في الـ29 من ابريل عام 1979، إثر عملية كان هدفها الوصول إلى مستوطنة "نهاريا" واختطاف جنود إسرائيليين لمبادلتهم بمعتقلين في سجون الاحتلال. فبعد توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" بين مصر وإسرائيل، تم التخطيط لعملية "القائد جمال عبد الناصر"، وكُلِّف بقيادتها سمير القنطار الذي كان حينئذ ملازماً في قوات "جبهة التحرير الفلسطينية"، ومعه مجموعة تضم كلاً من عبد المجيد أصلان ومهنا المؤيد وأحمد الأبرص. انطلقوا من شاطئ مدينة صور بزورق مطاطي صغير أعيد تصميمه ليكون سريعاً جداً، وبعد أن استطاعت المجموعة اختراق حواجز الأسطول السادس وإخفاء الزورق عن الرادارات الإسرائيلية وحرس الشاطئ، وصلت إلى "نهاريا"، وأسرت عالم الذرة الإسرائيلي "داني ماران"، وبعد انتهاء المعركة الرئيسية كانت الحصيلة مقتل مهاجمين (أصلان والمؤيد)، بينما أصيب القنطار والأبرص ليقعا في الأسر، فيما قتل ستة إسرائيليين بينهم العالم "ماران". وبينما تسكت المصادر العربية عن تحديد هويات باقي القتلى الإسرائيليين في عملية "نهاريا"، فقد كتبت أم إسرائيلية: "لا بد أن يعرف العالم ما فعل أبو العباس بعائلتي"، وزعمت في مقال نشرته بنفس العنوان، في صحيفة "الواشنطن بوست"، بتاريخ 25/5/2003، أن القنطار اقتحم شقتها وأخذ زوجها وابنتهما (4 سنوات) إلى الشاطئ، وقبل أن يهشم رأسها بعقب بندقيته لتلفظ أنفاسها على الفور، أردى والدها قتيلا أمام ناظريها! وفي 28 يناير 1980، حكمت المحكمة العليا الإسرائيلية على القنطار بالسجن المؤبد خمس مرات، أضيف إليها 47 عاماً، أي ما مجموعه 542 عاماً! فكيف عاش القنطار حياته ما قبل الأسر وما بعده؟ ولد سمير القنطار عام 1962 في بلدة "عبية" من قضاء "عاليه" المطل على بيروت، وتلقى تعليمه الابتدائي في مدارس البلدة، ولم يكمل دراسته الثانوية بسبب حماسه لأفكار "النضال القومي". ويُروى أنه كان يضع عبارة "الشهيد سمير القنطار" تحت إحدى صوره في الحجرة الدراسية. وبينما كان عمره 16 عاماُ فقط، حاول تنفيذ عملية عسكرية ضد القوات الإسرائيلية عبر الحدود الأردنية في منطقة "بيسان"، لكنه اعتقل هناك لمدة عام، وبعد إطلاق سراحه في نوفمبر 1978 شارك في مقاومة الاجتياح الإسرائيلي للبنان. وفي ذلك الحين انضم القنطار إلى "جبهة التحرير الفلسطينية" بقيادة محمد عباس (أبو العباس)، ثم ما لبث أن ودع أمه وإخوته على أن يعود بعد حين، لكنه أخذ طريقه في البحر إلى "نهاريا"، ومنها بدأت رحلته بين السجون والمعتقلات الإسرائيلية، وآخرها معتقل "نفحة" الصحراوي في النقب. جرت محاولات عدة لمبادلة القنطار بأسرى إسرائيليين، ففي أكتوبر 1984 قامت مجموعة من "جبهة التحرير الفلسطينية" باختطاف سفينة "أكيلو لاورو" الإيطالية، وكان على متنها إسرائيليون وأميركيون، وطالب الخاطفون بإطلاق سراح القنطار ورفاقه، لكن المفاوضات فشلت أخيراً "لظروف سياسية وأمنية عربية". وبعد عملية اختطاف ثلاثة جنود إسرائيليين في مزارع شبعا بتاريخ 1/7/2001، ثم استدراج العقيد الاحتياط ألحان تننباوم إلى لبنان، ثار الحديث مجددا عن إمكانية إطلاق القنطار، لكن في المرحلة الأخيرة من التفاوض، نفذت إسرائيل، بتاريخ 29/1/2004، قرارها بإطلاق 36 أسيراً من لبنان وسوريا وليبيا والسودان والمغرب، و400 معتقل فلسطيني، بينما بقي القنطار معتقلاً! فهل تؤدي تفاعلات ما بعد عملية 12يوليو 2006، إلى تحرير القنطار من قبضة قضبان سجنه الخانق، أم تضع لبنان كله تحت سقف الإرادة الإسرائيلية وإملاءات المنتصرين؟ محمد ولد المنى