كان السودان عبر تاريخه قديماً وحديثاً بلداً زراعياً تعتمد أغلبية أهله على فلاحة الأرض وتربية الماشية، وكانت ميزانية الدولة السودانية تعتمد على تصدير وبيع محاصيل زراعية، إلا أن هذا الوضع تراجع بصورة مؤلمة خلال السنوات الأخيرة وأصبح البترول ومشتقاته هو المصدر الأول للميزانية ولاح في الأفق أن السودان سيصاب بما عرف باسم "الإبتلاء الهولندي". وفي هذا الإسبوع كان إعلان سياسة جديدة يراد بها أن تعيد للقطاع الزراعي دوره وتفرض قدراً من التوازن بينه وبين قطاع النفط، فكان تدشين "النفرة الزراعية" التي أطلق خلالها رئيس الجمهورية دعوة إلى كل قطاعات الدولة والمجتمع لبذل كل جهد ممكن حتى تحقق هذه النفرة غرضها في ظرف خمس سنوات أو نحوها. إن الخطة التي أقرها مجلس الوزراء تتحدث عن المرحلة من 2007 إلى 2010 حيث اعتمدت الحكومة العام الأساسي للنفرة وهو العام الجاري، مبلغ 313 مليار دينار (الدولار الأميركي يعادل نحو 210 دنانير). إن تدهور القطاع الزراعي خلال السنوات الماضية، وكنتيجة لسياسات حكومة "الإنقاذ"، كان واضحاً ومن ذلك ما لحق بـ"مشروع الجزيرة" من تراجع وما أصاب مشاريع زراعية أخرى من خراب. وفي قراءة للتحولات الكبرى في الاقتصاد السوداني، نجد ارتفاع انفاق السودان على استيراد محاصيل زراعية كالقمح والأرز والبطاطس وغيرها عاماً بعد عام، وتحدثنا الأرقام أن حجم الاستثمار الكلي في الزراعة للعام الماضي، لم يتجاوز 1.3% من جملة الاستثمار. إن النفرة التي أعلنت تعني أن تجند كل الإمكانيات للنهوض بالزراعة التقليدية والحديثة، ومن ذلك توفير المدخلات الزراعية في الوقت المناسب والتأكد من أن مصارف المياه معدة تماماً لانسيابها في حالة المشاريع المروية بالانسياب وكذلك ضبط ومراقبة التمويل الزراعي ورفع مستوى مراكز البحوث الزراعية. لكن هذه النفرة رغم إعلانها باسم الحكومة فقد جاءت من حزب "المؤتمر الوطني" وتم إعلانها من داره، ولذا اعتبرها كثيرون مشروعاً حزبياً يراد به الدعاية إعداداً للانتخابات القادمة، لا سيما وقد اتفق الجميع على أن "الإنقاذ" أهملت هذا القطاع حقاً وركزت كل جهودها في قطاع البترول، ولهذا فإن كثيرين يرون أن الحزب الذي خرب قطاع الزراعة خلال 17 عاماً لن يستطيع أن ينقذه في عام أو خمسة أعوام، ويرى هؤلاء أن النفرة كان يجب أن تكون ذات طابع قومي وليس حزبيا وأن يجري التشاور حولها والإعداد لها مع القواعد ذات المصلحة، وهي تشمل المزارعين وبقية الفئات الشعبية ذات الصلة، كذلك تنادى بعض الاقتصاديين المهتمين بهذه القضية إلى اعتماد جزء كبير من الدخل القومي الوارد من بيع النفط إلى قطاع الزراعة لتعجيل النهوض به وضمان التمويل اللازم لذلك التحول. إن من المؤسف والمحزن أن يكون هذا هو حال السودان الذي خصه الله بأكثر من 200 مليون فدان صالحة للزراعة لم يستغل أغلبها حتى الآن بل تراجع استغلال ما كان مستغلاً في سنوات سابقة. كذلك يرى كثيرون أن من العار على نظام "الإنقاذ" أن يكون ذلك ما تم على يديه رغم أنه طرح في أول أيام استيلائه على السلطة شعاراً براقاً يقول "نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع" واتضح أنها كلمات جوفاء لا تمثل برنامجاً حقيقياً.