سئم العرب من نقد ذواتهم، جلدها وتعذيبها، كما يفعل العاجز أو "الماجوسي" الذي يجد لذته في إيلام نفسه وتعذيبها لأنه لم يعد قادراً على الرؤية. فقد انفصم عن العالم. ولم يجد إلا ذاته يغرق فيها ويحتمي بها حتى ولو كان بالنواح والصراخ. لقد خرج العرب من التاريخ في العالم ذي القطب الواحد. لم يستعدوا له. وظنوا أن ما قاموا به من حركات التحرر الوطني وما حصلوا عليه من الدول الوطنية الحديثة في عصر الاستقطاب هو أقصى إنجاز، ونهاية التاريخ. فلما تحولت الدولة الوطنية إلى دولة تابعة للخارج وقاهرة للداخل وعاد الاحتلال من جديد، خرج العرب صفر اليدين. واستمر التاريخ في مساره الجديد، ولم يستعد العرب له. فخرجوا منه. وحدد مساره الأقوياء، الإمبراطورية الأميركية الجديدة وإسرائيل الكبرى. وطلب من العرب الرضوخ له، والرضا بوضعهم فيه عبر مشاريع الشرق الأوسط الكبير، والمتوسطية. إسرائيل في المركز بدلاً من مصر، وأقدر على تحديث دول الجوار. وأميركا تحمي الكل من الخطر الإيراني والإرهاب الإسلامي بديلاً عن الخطر الشيوعي. وقَبِلَ العرب ذلك بالرغم من إمكانياتهم المادية والمعنوية، موقعهم الجغرافي بين القارات الثلاث، وما لديهم من مصادر الطاقة، وعائدات النفط، وأسواق شاسعة، ومواد أولية وفيرة، وعقول تفكر وتخطط، وسواعد تعمل وتنتج. إلا أن الطموح ينقصهم. فقد انهارت الخلافة التي كانت تحميهم وتوجههم في عام 1924 لصالح الفكرة القومية. ثم انهارت القومية العربية التي كانت توحدهم وتنهض بهم بعد هزيمة يونيو 1967 لصالح القطرية. ثم انهارت القطرية بعد احتلال العراق وفلسطين لصالح الدويلات العرقية والطائفية. وضاع الاستقلال الوطني الذي قام به الآباء لصالح الهيمنة الجديدة والاحتلال الذي يرزخ تحته الأبناء والأحفاد في فلسطين والعراق، والعدوان على لبنان وتهديد سوريا. ثم وجد بعض العرب وسيلة للعودة إلى التاريخ من أضيق الأبواب بالاشتراك في العدوان الأميركي على العراق. ومازال العراق يُذبح كل يوم. ويبرر بعض العرب بقاء القوات الأميركية في العراق بالخشية من تحوله الى حرب طائفية تنتهي بالتقسيم، وهو ما يحدث الآن بالضبط دون مشاركة العرب. ترك العرب الانتفاضة تـُذبح كل يوم، منذ انتفاضة الحجارة عام 1987 حتى انتفاضة السلاح في 28 سبتمبر 2000. وهو تاريخ لا يذكره أحد بعد أن غطى الإعلام الغربي والعربي عليه بأحداث 11 سبتمبر 2001. فالقوة هي التي تبقي حوادث التاريخ في الذاكرة. فض العرب أيديهم من قضيتهم الكبرى، فلسطين. وبعد أن خاضوا خمس حروب من أجلها، هاهي المنازل تهدم كل يوم، والتصفيات لقادة السرايا كل ساعة. والحجة المعلنة، عدم جر العرب إلى معركة لم يحددوا هم أنفسهم زمانها ومكانها، والصلح العلني أو السري مع إسرائيل، وعقد اتفاقيات السلام معها بشروطها السرية والعلنية، والتبعية لأميركا التي بيدها مفاتيح الحرب والسلام، القوة العظمى في العالم التي لا يقع فيه شيء إلا بأمرها! والحجة شبه المعلنة أن عصر القومية قد انتهى ولم تبق إلا القطرية: "مصر أولا"، "الأردن أولا"، "الكويت أولا"... ولم يعد هناك قطر مستعد لنجدة أخيه. والحجة غير المعلنة، الدفاع عن الحكم والبقاء فيه. فالقوة الكبرى الآن تغزو، وتغير كل نظام يرفض الدخول في بيت الطاعة. والأمم المتحدة في يدها، والقرارات هي التي تصوغها أو تعترض على صياغات غيرها. وأوروبا خافتة الصوت. والدول الثماني الكبار لا ترفض للقوة الكبرى طلباً. والمحافظون الجدد مستمرون في تبليغ رسالتهم الإلهية للعالم، رسالة الغزو والعدوان. وبعد العدوان الإسرائيلي الأخير على فلسطين ولبنان، ترك العرب الفلسطينيين واللبنانيين للقتل والتشريد، بالصمت أو بالإدانة لـ"حماس" أو لـ"حزب الله" و"المغامرات غير المحسوبة" وغير المسؤولة الضارة بالمصالح العربية. أين هي المصالح العربية التي لا يهتم بها أحد؟ وأين هي المغامرات، واللامبالاة هي الموقف الثابت للأنظمة العربية؟ فحتى قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل أو طرد سفرائها من ثلاث عواصم عربية وغلق مكاتبها التجارية ومكاتب اتصالها في الخليج والمغرب العربي... لم يتم! بل لم تقم المظاهرات العارمة المنددة بالعدوان والتي تشعر الأنظمة العربية والمقاومة الفلسطينية واللبنانية والعالم الخارجي أنها السند الشعبي للمقاومة. وأخيراً صدر بيان وزراء الخارجية العرب ليعبر عن إرادة العرب الجماعية. واختلف الرفاق في تحديد من هو العدو؟ هل هو إيران التي يزداد نفوذها من خلال شيعة العراق ولبنان والخليج والعلويين في سوريا؟ أم هو إسرائيل كقاعدة للعدوان على فلسطين وسوريا ولبنان، والتي مازالت تهدد دول الجوار، تريد التوسع والاستيطان؟ البعض يريد تغليب الآجل على العاجل، والمتوهم على الفعلي. والبعض الآخر، وهم الأغلبية، يريدون تغليب العاجل على الآجل، والواقع على الافتراضي. ففلسطين قاربت على الضياع، والعراق تمزق، ولبنان يُسوى بالأرض، والتهديد لسوريا يؤذن بحرب شاملة. والكل يرفض "التوريط"، وكأن المقاومة "مغامرة"، وقبول العدوان أسلم وأضمن! المقاومة مخاطرة، والاستسلام حكمة! وكلاهما يتمسح بالقومية العربية خوفا عليها من الثورة الإسلامية الشيعية في إيران أو تمسكا بها للدفاع عن فلسطين ولبنان! صدر بيان وزراء الخارجية العرب ليعلن، ليس فقط موت عملية السلام، بل هروب العرب من المعترك، واستمرار خروجهم من التاريخ. إدانة العدوان الإسرائيلي على فلسطين مجرد شجب وكلام مكرر معاد. وإدانة العدوان على المدنيين وتدمير البنية التحتية في فلسطين ولبنان، اختزال لقضية تحرير الأرض إلى قضية إنسانية تنموية يستطيع العرب حلها ببعض المعونات الإنسانية، والمشاركة في إعادة الإعمار. وإعلان التضامن مجرد قول دون فعل، لغو كلام كما يقول محمد إقبال. والحرص على عدم انزلاق المنطقة إلى حرب شاملة، مجرد وهم وخداع للنفس، وشيك بلا رصيد. فلن يدخل العرب بجيوشهم في حرب. كانت حرب أكتوبر آخر الحروب، والسلام خيار استراتيجي. وهو الخوف من عقدة الحروب العربية السابقة. لم تستطع حرب أكتوبر 1973 إبراء الجرح العميق والإحساس بالعجز والهزيمة. وتأييد حكومة لبنان وسيطرة جيشها على الجنوب، مطلب إسرائيلي أميركي ضد المقاومة. وهل أخذت المقاومة إذناً من الحكومة بتحرير الجنوب؟ واعتبار مجلس وزراء الخارجية في حالة انعقاد دائم لا يفيد في شيء، ولا يخيف أحداً إذا احتجوا أو إذا انفضوا. والاعتراف بأنه لا توجد آلية لدرء العدوان وأن اتفاقية الدفاع المشترك في حاجة إلى قراءتها من جديد، هو إعطاء شرعية للتخلي عن واجب الدفاع العربي المشترك. وإعلان وفاة السلام هو في الحقيقة دفن السلام وتشييع جنازته. فقد توفي من قبل بإعادة احتلال فلسطين كلها، وعدم الاعتراف بحكومة "حماس" أو بأي شريك فلسطيني آخر، "فتح" أو السلطة الوطنية الفلسطينية. السلام أسطورة، والدولة الفلسطينية الموعودة حقنة تخدير لا وجود لها على الأرض، لا في العاجل ولا في الآجل. و"خريطة الطريق" وهم حتى في ذهن واضعيها. إسرائيل تتحفظ على أربعة عشر بنداً فيها، وهي طوق النجاة للعجز العربي! لم يبق شيء من أرض فلسطين. واللاءات الثلاث الإسرائيلية، لا للعودة إلى حدود 1967، لا للانسحاب من القدس الشرقية، لا لعودة اللاجئين، قضاء مبرم على السلام. لقد رفع العرب ورقة التوت الأخيرة، "خريطة الطريق"، بعد أن قاموا بعمل مجيد وهو إعلان دفن "السلام". وتبلغ ذروة الهروب العربي في إحالة الموضوع إلى مجلس الأمن! تخلى العرب عن قرارهم، وممارسة إرادتهم المستقلة. وعجزوا عن أخذ موقف فيما يخص مصيرهم ووجودهم. أحال العرب ما يمسهم إلى غيرهم. ورفعوا أمرهم إلى دول العالم كي تقرر لهم. فأعلنوا عجزهم. وكما أعلنوا وفاة عملية السلام، أعلنوا أيضاً وفاتهم وحدادهم على أنفسهم. وماذا يفعل مجلس الأمن وقد رفض من قبل المشروع القَطَري لأنه غير متوازن، أي لا يدين المقاومة ولا يضمن أمن إسرائيل! والفيتو الأميركي بالمرصاد لأي قرار يعبر عن مطالب العرب: إيقاف القتال وقصف المدنيين، تبادل الأسرى، العودة إلى مائدة المفاوضات. وقد صدرت من قبل مئات القرارات لصالح فلسطين، لكن ما من مجيب. ما فائدة توجيه شكوى لبنانية إلى مجلس الأمن، والعالم كله يتبنى الشروط الإسرائيلية، ويطالب بما تبقى من استحقاقات تطبيق القرار 1559، والإلزام بتعويض المدنيين عن الخسائر! والحكمة في ضبط النفس؟ تحية للبنان، شعباً وجيشاً، مقاومة وحكومة. يكفي العرب شرفاً أن أصغر قطر عربي يواجه أكبر قوة عسكرية، كما واجه شعب فيتنام من قبل آلة الغزو الأميركي، وتحية إلى شجرة الأرز على جبال لبنان، وفي علم لبنان، وفي قلب كل عربي.