هل يكسب اللبنانيون، والعرب، أم يخسرون في الحرب التي أشعلتها عملية "الوعد الصادق"، والتي اختلفوا في تقييمها؟ فعندما يصل هذا الخلاف إلى حد التناقض بين من اعتبروها مبادرة بطولية شجاعة ومن رأوا فيها مغامرة غير محسوبة، لابد أن نكون إزاء تحرك مفتوح على نتائج قد لا تقل تعارضاً. غير أن نتائج عملية "الوعد الصادق" ليست وحدها المختلف عليها، ولكن أيضاً الهدف السياسي الذي يسعى إليه من قاموا بها فيما يتجاوز المعلن وهو تحرير أسرى لبنانيين وفلسطينيين عبر مبادلتهم بالجنديين اللذين أمكن أسرهما. فلا يبدو هذا الهدف واضحاً، بالرغم من أن المنهج الذي يوجه "حزب الله" ليس غامضاً، فهو منهج واضح إلى حد كبير، قد لا يخلو من منطق، لو أن الهدف واضح على نحو يمكن إجراء تقييم للربح والخسارة على أساسه، لأن الأمر يختلف في حالة كون الهدف وطنياً يتعلق بلبنان في إطار الصراع العربي- الإسرائيلي، عنه في حال هدف إقليمي يرتبط بصراع دولي. ففي إدارة الصراع تختلف النظريات حسب الهدف المبتغى وما يرتبط به من معطيات في الواقع وطريقة النظر في هذا الواقع، ويؤثر ذلك بالضرورة في كيفية التعامل مع ميزان القوى. فعلى سبيل المثال، عندما ينتقل الصراع إلى الميدان ويأخذ طابعاً مسلحاً، قد يبدأ الطرف الأقوى بضرب ما قد يكون لدى الأضعف من عناصر قوة، أو ما بقي له من هذه العناصر، فإذا نجح في ذلك، قد يسهل حسم الصراع لمصلحته. والطرف الأضعف، بدوره، قد يحاول ضرب بعض عناصر القوة لدى العدو الأقوى للحد من الخلل في ميزان القوى بينهما، ولكنه قد يفضل، في المقابل، استهداف عناصر ضعف معينة لدى عدوه الأقوى إذا كانت لهذه العناصر أهميتها المؤثرة في مسار الصراع. فقد يؤدي النجاح في استهداف هذه العناصر إلى تأثير وقتي أو جزئي ولكنه قوي في قدرة العدو الأقوى أو حرية حركته على الصعيد السياسي. أما إذا كان لبعض عناصر الضعف المستهدفة أهمية خاصة أو مميزة، فقد يطمح من يستهدفها إلى تغيير أكبر في خريطة الصراع إن لم يكن في مساره. وهناك قواعد ومعايير عامة لقياس عناصر أو نقاط القوة والضعف في أي صراع مسلح، ولكن بعض هذه القواعد والمعايير تختلف في حالة الصراع المسلح النظامي، أي بين جيشين، عنه في ظل الصراع بين قوتين غير نظاميتين أو بين جيش نظامي ومجموعة أو مجموعات تعمل بطريقة حرب العصابات أو تجمع بين هذه الطريقة والحرب النظامية، وثمة، فضلاً عن ذلك، نقاط قوة وضعف تختلف من صراع إلى صراع، ومن طرف إلى آخر. وفي بعض المجالات، يختلف طرفا الصراع نفسه من حيث بعض عناصر القوة والضعف، وخصوصاً نقاط الضعف، المؤثرة في كل منهما. وينطبق ذلك على الصراع بين إسرائيل و"حزب الله" الذي دخل مرحلة جديدة، في عمره الذي يقترب من ربع قرن، منذ عملية "الوعد الصادق". فالمرجعية الحضارية الغربية لإسرائيل تجعل للإنسان الفرد قيمة في ذاته تصعب التضحية بها من أجل أهداف أخرى. ولذلك يمثل أسر أي فرد نقطة ضعف لدى إسرائيل أكثر منها بالنسبة إلى لبنان أو فلسطين، وغيرهما من البلاد التي تعطي مرجعياتها الحضارية أهمية أكبر للجماعة أو للأمة. وهذا هو المنطق وراء التصعيد الذي قام به "حزب الله" عبر عملية "الوعد الصادق"، إذ يتيح أسر أي جندي إسرائيلي فرصة لانتزاع مكسب من هذا العدو الذي يعاني من نقطة ضعف خطيرة في هذا المجال، خصوصاً في حال وجود حكومة جديدة تواجه أول اختبار صعب لها. فقد ضغط "حزب الله"، إذن مرة أخرى، على نقطة ضعف مؤثرة في إسرائيل سبق له أن اختبرها خلال العقد الماضي، فأحدثت أثرها الذي أخذ يتراكم إلى أن فرض انسحاباً إسرائيلياً من جانب واحد في مايو 2000. فهذه نقطة ضعف معروفة، إذن، ومختبرة من قبل، ولكن السؤال المهم الآن هو: هل هذه نقطة ضعف مطلقة بمعنى أن استهدافها يُحدث الأثر نفسه بالضرورة في كل مرة، وهل يجوز أصلاً أن تكون نقطة ضعف نسبية بطابعها-بمعنى أنها تختلف من صراع إلى آخر ومن طرف إلى غيره- ذات أثر مطلق؟ الإجابة هي بالنفي بطبيعة الحال، لأن تأثير أي نقطة ضعف أو قوة لدى أي طرف في أي صراع يرتبط بظروف متغيرة. وهنا يبدأ الخلل في منهج "حزب الله" في عملية "الوعد الصادق"، إذا كان الهدف من ورائها وطنياً لبنانياً وليس إقليمياً لمساندة دولة حليفة أو المساهمة في تخفيف الضغط عليها. وقد رأينا كيف لم تفعل نقطة الضعف هذه فعلها على مدى سنوات انتفاضة الأقصى، عندما استهدفت عمليات فدائية قتل إسرائيليين فرادى ومجموعات. وحتى إذا سلمنا بأن الانسحاب من قطاع غزة كان نتيجة الأثر المتراكم لتلك العمليات، ينبغي التسليم أيضاً بأن هذا الأثر كان أقل بكثير من ذلك الذي ترتب على هجمات الجناح العسكري لـ"حزب الله" على قوات الاحتلال في جنوب لبنان. ويرجع ذلك إلى تباين في بعض الظروف المحيطة، واختلاف أهمية الضفة الغربية عن جنوب لبنان بالنسبة إلى إسرائيل. وإذا صح أن نقطة الضعف الإسرائيلية هذه يختلف أثرها من منطقة إلى أخرى، فمن الجائز أيضاً أن يتباين هذا الأثر من وقت إلى آخر في المنطقة نفسها، خصوصاً إذا ارتبط هذا الفرق الزمني بتغيير في الظروف أو في بعضها. فعلى سبيل المثال، اختلف موقف المجتمع الدولي تجاه عمليات الجناح العسكري لـ"حزب الله" بعد الانسحاب الإسرائيلي، وإعلان الأمم المتحدة أنه لم تعد ثمة أراض لبنانية تحت الاحتلال واعتمادها الخط الأزرق بالرغم من الوضع الملتبس لمنطقة مزارع شبعا. ويعني ذلك عدم قدرة "حزب الله" على تكرار الانجاز الذي حققه في العقد الماضي، بالرغم من أنه قادر الآن على الوصول إلى العمق الجغرافي الإسرائيلي عبر ضربات صاروخية مؤثرة تمثل ضغطاً إضافياً على نقطة الضعف التي يستهدفها من خلال إسقاط قتلى وليس فقط إحداث خسائر مادية. فقتل أفراد قلائل في إسرائيل يعدون على أصابع يد واحدة أو يدين اثنتين يُحدث أثراً لا يقل عما يترتب على قتل عشرات وربما مئات، في لبنان وفلسطين بفعل الفرق بين منظومتي القيم السائدتين هنا وهناك. وهذا الفرق هو الذي يجعل "حماس" تطالب بمبادلة أسير إسرائيلي واحد بألف أسير فلسطيني (وأسيرة)، ويدفع "حزب الله" إلى طلب مبادلة أسيرين اثنين بعشرات وربما مئات الأسرى اللبنانيين والفلسطينيين. هذا النوع من المطالب نعتبره، في العالم العربي والإسلامي عادياً لا يثير أي خجل أو أسى لدينا. فنحن بحكم ثقافتنا السائدة، لا ننظر إلى هذا الأمر باعتباره دالاً على أن إسرائيلياً واحداً يساوي ألفاً منا، لأننا لا نعني بالفرد من حيث هو فرد. ويخطئ إسرائيليون وآخرون غربيون، سواء بقصد أو دون قصد، عندما يقيسون الأمر على هذا النحو (إسرائيلي يساوي كم من العرب) لأنهم يغفلون الفروق الثقافية والقيمية. وبحكم هذه الفروق، ستظل أي خسارة بشرية مؤثرة في إسرائيل من حيث المبدأ، غير أن مدى هذا الأثر هو الذي يختلف وفقاً للظروف والمعطيات الأخرى. وإذا كان الوضع في جنوب لبنان اختلف منذ مايو 2000، فمن الضروري أن يتباين مدى الأثر الذي ترتب على أسر جنود إسرائيليين قبل ذلك التاريخ وبعده. ويضاف إلى ذلك وجود حكومة جديدة في إسرائيل تواجه أول اختبار لها، ويخشى رئيسها نتائج هذا الاختبار على حزبه "كاديما" أيضاً. ويبقى، بعد هذا كله، "حزب الله" نفسه، وما يسعى إليه، لقد كان هدفه قبل انسحاب 2000 واضحاً شديد التحديد، وهو تحرير جنوب لبنان. هذا الهدف لم يعد في مثل هذا الوضوح، ليس فقط بسبب التباس وضع منطقة "مزارع شبعا" بين لبنان وسوريا، ولكن أيضاً لأن الحق القوي الظاهر الذي استند إليه قبل مايو 2000 لم يعد قائماً في نظر المجتمع الدولي. وهذا يكفي لحرمان "حزب الله" من تحقيق مكسب حقيقي من جراء أسر جنديين إسرائيليين، ويعرضه إلى خسائر قد يكون ما يلحق به منها أقل بكثير مما يصيب لبنان، ومعها فلسطين، والعرب عموماً. ومن هذه الخسائر ما قد يصعب تعويضه في وقت قصير، وخصوصاً حصول إسرائيل على ضوء أخضر دولي لشن عدوان رهيب باعتباره "دفاعاً عن النفس". فهذه هي المرة الأولى التي ينظر فيها المجتمع الدولي إلى إسرائيل المعتدية دائماً باعتبارها "معتدىً عليها" وتمتلك بالتالي الحق في الدفاع عن نفسها، سواء بشكل مطلق على النحو الذي عبرت عنه الولايات المتحدة أو في حدود معينة لا يصح تجاوزها وفق المواقف الأوروبية التي انتقدت عملياتها العسكرية من حيث الحجم لا من زاوية المبدأ، أي باعتبارها غير متكافئة مع ما تعرضت له. وهذه خسارة كبرى تفوق أي مكسب قد يحققه "حزب الله"، بخلاف الخسائر البشرية والمادية الهائلة في لبنان.