لبنان العظيم، الذي لايمسُّ الحياة إلاُّ ويٌدخل فيها الحيوية والحركة والطموح، لايحتاج فقط للمواقف الأخلاقية لدعمه في صموده البطولي الأسطوري أمام جحافل الآلة الصهيونية النازية، ولكنه يحتاج أيضاً للمواقف السياسية. والفرق بين الموقفين كبير وبالغ الأهمية بالنسبة للنتائج. نحن هنا نتكلم عن مواقف الشعب العربي وليس أنظمته الحاكمة، فهذه فقدت القدرة على اتخاذ أيٍّ من الموقفين، فلا عجزها سيمكٍّنها من اتخاذ مواقف سياسية فاعلة ولاغياب إنسانية الإنسان في أحشاء أغلب مسؤوليها سيسمح باتخاذ مواقف أخلاقية. الحديث هنا يتوجه إلى مواقف الشارع العربي كمؤسسات وكأفراد؛ فحتًّّّّّى الآن لم تَزٍد مظاهراته الخجولة المحدودة عن أن تكون مواقف أخلاقية تندٍّد بالعدوان وتستهجن موقف العالم الغربي اللاأخلاقي، وتحٍّيي المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق. ولكن هل هذا هو ما يحتاجه الشعب العربي في تلك البلدان، وهو في محنته الحالية مع البربرية الصهيونية والاستعمار الأميركي الدًّاعم لها؟ فمثل هذا عبًّرت عنه حشود أكبر خرجت في باكستان وتركيا وإندونيسيا وأوروبا، بل وحتًّى في تل أبيب. لكن المطلوب يتمثل في مواقف سياسية لها أهدافها وشعاراتها والنضال اليومي المستمر غير المنقطع من أجل تحقيقها في الحال. المطلوب ليس إيقاف العدوان فقط، وإنما استعمال المناسبة لقلب الطاولة على الصهاينة والأميركيين، وعلى مشروعهم السياسي برمُّته، وهي مناسبة لن تتكرر. مطلوب من الشعب العربي أن تخرج مظاهراته، وأن تتحوُّل إلى اعتصامات ومواجهات إن لزم الأمر، لإغلاق السفارات الصهيونية حيثما تكون، لإغلاق المكاتب التجارية الصهيونية حيثما تكون، لسحب السفراء العرب من تل أبيب، لإعادة مكاتب المقاطعة العربية التي أغلقت. هذه المطالب السياسية كان يجب أن تطرح منذ اليوم الأول وتخرج المظاهرات الحاشدة يومياً وليل نهار للإصرار على تنفيذها كردٍّ على التفوق العسكري الصهيوني- الأميركي الهائل، وعند ذاك فقط ، كان العدوان سيتوقف وسيتردًّد الصهاينة والأميركيون ألف مرًّة قبل أن يستبيحوا، بنذالة وهمجية حيوانية وتصًّرفات شيطانية حقيرة، أرواح الأطفال والنساء والشيوخ العزًّل ومابنته تلك المجتمعات بعرقها عبر القرون وذلك في سعيهم الجبان لإعادة الأرض العربية وأهلها قروناً للوراء. لايحتاج هذا الثمن الذي يجب أن تدفعه الصهيونية والولايات المتحدة الأميركية لجيوش وأسلحة بل لوجود شارع عربي منظًّم مجيًّش متحرك نحو أهداف محدًّدة واضحة قابلة للتحُّقق. لكن ذلك لم يحدث ولا يحدث، لأنًّ القوى السياسية المجتمعية العربية لم تعرف قط كيف تمارس السياسة المؤسساتية الشعبية وفي مقدّمتها إعداد أناس الشارع العربي، عبر سنين وعقود وليس أياماً معدودات، لمثل هذه الأيام البائسة التي نعيشها الآن. ومع ذلك ستكون كارثة أخلاقية وسياسية لو أننا توقُّفنا عن طرح مثل تلك المطالب والنضال اليومي من أجلها حتى ولوتوقًّف العدوان الأميركي- الصهيوني المباشر الحالي علينا. ذلك أن المعركة مع تلك الجهتين يجب أن تستمر حتى إفشال مشروعهما السياسي- العسكري المشترك، وإلاًّ فإن ما يحدث الآن في فلسطين ولبنان والعراق سيتكرُّر مرًّة تلو الأخرى. مطلوب أن تدرك أميركا والصهيونية أن الدًّم الذي أريق بأعصاب باردة سيكون له ثمن باهظ. مرة أخرى نذكٍّّّر: المواقف الأخلاقية يستجيب لها الناس بعفوية وبسهولة لأنها تمسُّ إنسانية الإنسان، لكن المواقف السياسية تحتاج إلى إعداد وتهيئة وإقناع عبر سنين طويلة، وبأناس لايتعبون ولا يملون ولا يتساقطون على الطريق. عند ذاك ستصبح أنظمة الحكم العربية أداة تنفيذ لإرادة الشارع العربي المسيًّس المنظُّم الواعي ولن تستطيع أن تقف من ما يحدث في لبنان وفلسطين والعراق موقف المتفرٍّج البائس الذي نشاهده ونحن مشدوهين. مأساة العالم ومأساتنا أن المواقف أصبحت أخلاقية فقط، على أهميتها، وليست سياسية وأخلاقية معاً ولذلك لا يتزحزح الظالمون. د. علي محمد فخرو