تصنف الأمراض التي تصيب أفراد الجنس البشري حسب عدة تصنيفات، مثل تصنيفها كأمراض معدية وأمراض غير معدية، أو كأمراض حادة وأمراض مزمنة. وتستخدم صفة المزمنة، للإشارة إلى تلك الأمراض التي لا يتم الشفاء منها أبداً، أو تلك التي يستغرق الشفاء منها وقتاً طويلاً جداً، أو التي تتميز بانتكاسات وارتدادات على فترات متباعدة، تفصلها فترات من الشفاء المؤقت. وبشكل أدق، وحسب القواميس الطبية، يوصف المرض بالمزمن إذا ما تميز بواحد أو أكثر من الصفات التالية: أن لا يكون هناك شفاء منه، أو أن يخلف إعاقة مستديمة، أو أن يكون ناتجاً عن اختلال باثولوجي لا يمكن عكسه، أو أن يتطلب تدريب المصابين به تدريباً خاصاً لإعادة تأهيلهم، أو أن يتطلب توفير عناية خاصة ورعاية طبية طويلة الأمد للمصابين به. وباختصار، يمكن وصف الأمراض المزمنة، بأنها تلك الأمراض التي تستمر أو تستمر آثارها لأكثر من ثلاثة أشهر. وعلى عكس الاعتقاد السائد، والخاطئ، بأن الأمراض المزمنة لا تصيب إلا الرجال بعد منتصف العمر في الدول الغنية، تظهر الإحصائيات أن 80% من الوفيات الناتجة عن الأمراض المزمنة، تحدث حالياً في الدول الفقيرة والدول متوسطة الدخل، وحيث تصيب كلا من الرجال والنساء بشكل متساو إلى حد كبير. وتظهر الإحصائيات أيضاً حقيقة أخرى مفزعة، وهي أن الأمراض المزمنة ستتسبب في العام الحالي في وفاة قرابة خمسة وثلاثين مليون شخص، وهو ما يزيد عن 60% من الوفيات المتوقعة بين أفراد الجنس البشري هذا العام، والمتوقع أن تزيد في الإجمالي عن ثمانية وخمسين مليون شخص. وهو ما يعني أن النمط المرضي لسكان العالم، أو الاتجاه الصحي (disease profile)، يتغير بسرعة مضطردة، وباتجاه زيادة الثمن الإنساني للأمراض المزمنة. هذا الوضع المتغير يأخذ بعداً خاصاً في الدول الفقيرة والدول متوسطة الدخل، حيث أصبحت الأمراض المزمنة تشكل بالتواطؤ مع الأمراض المعدية، عبئاً مزدوجاً ترزح تحته شعوب تلك الدول. فحتى سكان الدول الأكثر فقراً، لم يصبحوا بمنأى عن أوبئة الأمراض المزمنة، مثل أمراض القلب والشرايين، وداء السكري، والسكتة الدماغية، والسرطان، وغيرها. ولذا، وفي عالم يتزايد فيه عدد من يقعون ضحايا من جراء الأمراض المزمنة، ويتخطى فيه من يعاقون، حاجز الملايين، يصبح من الضروري استرجاع الحقائق الأساسية عن الأمراض المزمنة، بغرض الوصول إلى الصورة الكاملة، بجوانبها الإنسانية والاقتصادية. بداية هناك الذبحة الصدرية والسكتة الدماغية، واللذان ينتجان من أمراض الشرايين المزمنة، ويتسببان في وفاة أكثر من اثني عشر مليون شخص كل عام. حيث تتسبب أمراض القلب الناتجة عن أمراض الشرايين في وفاة 7.2 مليون، بينما تتسبب أمراض الشرايين المغذية للمخ، مثل السكتة الدماغية، في وفاة 5.5 مليون آخرين. وفي الوقت نفسه، يموت 3.9 مليون شخص بسبب ارتفاع ضغط الدم المزمن، وغيره من أمراض القلب. أما داء السكري، فتشير التقديرات إلى وجود 177 مليون شخص حول العالم مصابون به، يعيش ثلثاهم في الدول النامية. وبالنسبة لزيادة الوزن، فيوجد مليار شخص من زائدي الوزن حول العالم، منهم 300 مليون على الأقل مصابون بالسمنة المفرطة. وبخلاف ملايين الوفيات التي تنتج عنها، تتصف الأمراض المزمنة بسمة أخرى، وهي ارتفاع تكلفتها الاقتصادية بدرجة كبيرة. فبداية هناك فقدان الطاقة الإنتاجية للشخص المصاب، بسبب اعتلال صحته، وفقدانه للقدرة على الإنتاج المتواصل، وبشكل منتظم، بسبب مرضه. هذا العجز، أو الفقدان التام أحياناً لقدرة الشخص الإنتاجية، غالباً ما يحدث في مرحلة يفترض فيها أن يكون في قمة عطائه، بعد سنوات استثمر فيها أسرته ومجتمعه مبالغ ضخمة في تعليمه وتدريبه. ثم هناك مصاريف العلاج والرعاية الصحية التي يتطلبها هؤلاء المرضى، والتي بسبب طبيعة المرض المزمنة، دائماً ما تكون لفترة طويلة وبتكلفة تراكمية باهظة. والمؤسف أن حوالي 80% من حالات أمراض الشرايين التاجية المغذية للقلب، وما ينتج عنها من أمراض ووفيات، و90% من حالات السكري من النوع الثاني، وثلث حالات السرطان، كان من الممكن تجنبها تماما، من خلال الاعتماد فقط على غذاء صحي متوازن، وممارسة النشاط البدني بشكل أكبر، والامتناع عن التدخين. وهو ما يعني أن جزءاً لا يستهان به من الأمراض المزمنة، والتي أصبحت حالياً سبباً رئيسياً للوفيات والإعاقات حول العالم، يمكن في خفض عدد ضحاياها بشكل هائل، إذا ما استطعنا إحداث التغيرات السلوكية التي تقلل من أثر عوامل الخطر المعروف عنها زيادة احتمالات الإصابة بهذه الأمراض. هذه العوامل تتضمن الكوليستيرول المرتفع، وضغط الدم المرتفع، والوزن الزائد، والتدخين، وتعاطي الكحوليات. هذا الوضع دفع منظمة الصحة العالمية إلى العمل باتجاه تطوير "استراتيجية عالمية"، على صعيد نوعية الغذاء وكمية النشاط البدني، بعد تفويضها من قبل الجمعية الصحية العالمية خلال اجتماعها في شهر مايو عام 2002. مثل هذه الاستراتيجية، والتي ستعتمد على إجراءات وتوصيات وقائية تشمل جميع أفراد المجتمع، ستهدف إلى تجنيب الجنس البشري ما يمكن أن نطلق عليه "وفيات غير ضرورية". فالجزء الأكبر من الأمراض المزمنة التي تحصد سنوياً حياة الملايين، هي في حقيقتها أمراض كان من الممكن الوقاية منها، وتجنب تبعاتها، من خلال تغييرات سلوكية بسيطة، ودون الحاجة للكثير من المال أو الجهد. د. أكمل عبد الحكيم