في حديثنا الممتد عن حوار الثقافات قررنا أن مشكلته في الوقت الراهن أنه لا ينطلق من نظرية متماسكة ولا يوجه مناقشاته منهج محدد ، وأنه – أخيراً- يفتقر إلى معايير واضحة لاختيار المشكلات العامة والخاصة التي تكون محلاّ للحوار. وضربنا أمثلة متعددة بالنقد الذاتي العربي الذي لابد أن يمارسه الطرف العربي. غير أن الطرف الغربي عليه أيضاً ممارسة النقد الذاتي بالنسبة لموضوعات أساسية. وأهمها على الإطلاق تفسيره لإعادة إنتاج المركزية الغربية التي جوهرها أن القيم الغربية وليس غيرها، ينبغي أن تكون هي المرجعية الأساسية للقيم في العالم. والموضوع الثاني هو تفسير صعود العنصرية الجديدة في الدول الأوروبية خصوصاً، وبروز نزعات كراهية الأجانب وخاصة بالنسبة للقوى العاملة المهاجرة المتحدرة من أصول عربية أو إسلامية. والموضوع الذي يكاد يكون أهم هذه الموضوعات جميعاً هو أسباب الكراهية والعداء التي يبديها الغربيون، وخصوصاً الساسة والإعلاميين الأميركيين، إزاء العرب والمسلمين، وفي الحالات المتطرفة إزاء الإسلام ذاته باعتباره ديناً يحض على العنف والإرهاب! ولقد سبق أن قررنا أن ممارسة النقد الذاتي فضيلة غربية وليست فضيلة عربية! ورغم هذه الحقيقة فإنه يمكن القول إن ممارسة النقد الذاتي العربي تقدمت تقدماً كبيراً في العقود الأخيرة. وخصوصا بعد هزيمة يونيو 1967، حتى أنه نشأت كتابات أطلق عليها موجة "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، وكان من أبطالها صادق جلال المعظم وصلاح الدين المنجد وأديب نصور... الذين وجهوا النقد للهزيمة العربية المدوية، كل من وجهة نظره. غير أنه لابد من تحفظ في إطلاق الحكم على أن ممارسة النقد الذاتي فضيلة غربية، ذلك أنه في حالات متعددة نكصت نظم سياسية وفي مقدمتها النظام الأميركي والنظام البريطاني، عن ممارسة النقد الذاتي فيما يتعلق بقرارات الحرب التي وجهت بغير شرعية دولية ضد أفغانستان والعراق! في نفس السياق عجزت الولايات المتحدة الأميركية عن ممارسة النقد الذاتي لدعمها غير المحدود للدولة الإسرائيلية العنصرية. ويبدو ذلك واضحاً هذه الأيام بعد أن مارست إسرائيل عدوانها الهمجي ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وبعد أن مدت عدوانها إلى الشعب اللبناني، والذي تمثل في هدم البنى التحتية وإصابة المدنيين، والهجوم العسكري الكاسح على الشعب اللبناني نفسه وليس على قواته العسكرية. ومن هنا صدق الرئيس شيراك حين قرر أن هذه حرب غير متكافئة، لأنها في الواقع تدور بين جيش مسلح بأقوى الأسلحة وبين مواطنين مدنيين. حرب ليست فيها شجاعة أو بطولة أو دفاع عن النفس كما يزعم التبرير الأميركي، بل هي حرب جبانة بكل المقاييس. ولا أدري هل تنظيم "مركز الأهرام للدراسات والبحوث الاستراتيجية" لندوة حاشدة عن "نظرية المؤامرة في الفكر العربي" في 25 يونيو الماضي شاركت فيها نخبة من الباحثين يعد من قبيل التوفيق أم من قبيل سوء الطالع؟ عقد هذه الندوة قد يعد من وجهة نظر بعض المراقبين من قبيل التوفيق لأنها تتضمن نقداً علمياً صارماً لنظرية المؤامرة في الفكر السياسي العربي. ويؤيد هذا الرأي أن بعض التصريحات للقادة السياسيين العرب تتشبت بالفكر التآمري لكي تتنصل من المسؤولية في بعض المواقف، أو تدرأ عن نفسها عار الهزيمة، أو تبرر فشلها الذريع في تحقيق وعودها لشعوبها. كما أن بعض المعالجات الصحفية تتبنى هذا الفكر التآمري انحيازاًً منها لفكر سياسي منحرف، أو تأييداً لمواقف دول أو قوى سياسية تتسم بالضعف والتهافت، بإلقاء مسؤولية ما حدث على عاتق قوى خارجية، يقال دائماً إنها تستهدف الأمة العربية أو الأمة الإسلامية. غير أن تنظيم ندوة عن نظرية المؤامرة في هذا التوقيت قد يعد من سوء الطالع، لأنها انعقدت في الوقت الذي تبنت فيه إسرائيل فكراً تآمرياً واضحاً لضرب الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، انطلاقاً من حادثة فردية منعزلة تتمثل في أسر جندي إسرائيلي واحد، في الوقت الذي خطفت فيه إسرائيل آلاف الفلسطينيين وحبستهم بغير شرعية في سجونها ومعتقلاتها. وما أن انتهت الندوة حتى قام العدوان الإسرائيلي الهمجي على الشعب اللبناني، بناءً على ما قام به "حزب الله" من قتل عدد من الجنود الإسرائيليين وخطف جنديين. ولعل السؤال الذي يفرض نفسه هل الفكر التآمري سمة أساسية من سمات العقلية العربية، بل إنه سمة للعقليات عموماً، عربية كانت أو غربية، وهو يصعد ويهبط حسب المراحل التاريخية ووفق طبيعة الأنظمة السياسية الحاكمة. ألم تكن الولايات المتحدة الأميركية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية تعتبر أن الاتحاد السوفييتي يقود مؤامرة عالمية ضدها؟ وألا يعتبر بعض المفكرين الأميركيين المرموقين وفي مقدمتهم صمويل هنتنجتون في أطروحته عن صراع الحضارات أن هناك احتمالاً لصدام حضاري بين الثقافة الإسلامية والثقافة الكونفوشية والحضارة الغربية. أليس في ذلك ممارسة لنظرية المؤامرة؟ ومع كل ذلك يمكن القول إن ندوة نظرية المؤامرة التي نظمها "مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية" تنطلق من إطار نظري وضعه الدكتور محمد عبد السلام، وحاول فيه– يا للمفارقة- وضع قواعد منهجية للتفكير التآمري! نظرية المؤامرة وفق هذا النظر إطار عام واسع يقوم على فكرة أن هناك مخططات كبرى وقوى خفية أو ظاهرة تدير العالم وكأنه خشبة مسرح. لكن الأهم "أن هناك أنماطاً فكرية معينة يمكن تحديدها، تمثل ما يشبه نظريات فرعية متماسكة، ترتبط بمضامين محددة، وتستند إلى افتراضات وحالات وآليات تفكير تسود في أوساط مختلفة". وقد استخلص الإطار النظري ستة أنماط للتفكير التآمري يستحق كل منها التأمل النقدي. وهي أنماط الاستهداف والاستدراج والتشكيك ونمط المستفيد ونمط الاختراق ونمط الهذيان. ونجد في الإطار النظري تعريفاً بالملامح الأساسية لكل نمط، ولكن أهم من ذلك نجد بحوثاً فرعية يعالج كل بحث منها نمطاً من هذه الأنماط. وحين نطالع هذه البحوث سنجد تفاوتاً كبيراً في قيمتها العلمية، وأهم من ذلك موضوعيتها في تناول الظواهر السياسية التي دارت في العالم العربي، أو في المعارك التي شنتها قوى خارجية على بلد عربي أو آخر. وإذا كان التحليل النقدي لما كتب عن كل نمط من هذه الأنماط مسألة مهمة في ذاتها لجلاء وجه الحقيقة في الأوراق البحثية التي عرضت في الندوة، فإن الأهم من ذلك أن يطرح في النهاية السؤال الذي صغناه كعنوان لمقالنا "مؤامرة أم علاقات متصادمة"؟ وفي تقديرنا أن التركيز الشديد على الفكر التآمري الذي زعم في الندوة أنه يسود الفكر السياسي العربي، مع أن ذلك على سبيل القطع ليس صحيحاً، من شأنه أن يتجاهل منهجية الصراع في تحليل العلاقات الدولية. وهذه المنهجية التي تقوم على أساس تطبيق مقاربات متعددة سواء كانت مقاربة الاقتصاد السياسي العالمي، أو مقاربة الهيمنة، أو توازن القوى، أو غير ذلك من مقاربات من شأنها أن تعطينا تفسيراً علمياً للصراعات التي دارت بين العالم العربي والعالم الغربي في القرن الماضي. وتظل الأسئلة التقليدية صالحة لإلقائها الآن! هل كان الاستعمار الغربي بصوره المتعددة لعديد من البلاد العربية واقعاً أم كان فكراً متخيلاً وظاهرة وهمية ركز عليها أنصار الفكر التآمري من العرب؟ وإذا تركنا التاريخ جانباً، هل الشق الاقتصادي من ظاهرة العولمة، وعلى وجه الخصوص النصوص المجحفة الواردة في معاهدة منظمة التجارة العالمية حقيقة موضوعية، أم فكراً متوهماً صاغه أنصار الفكر التآمرى في البلاد النامية؟ وأخيراً وليس آخراً، هل كان العدوان الأميركى ضد العراق وغزوه بالقوة المسلحة بغرض تحريره من النظام الديكتاتوري هو الهدف، أم أن السيطرة على آبار النفط، واستعراض العضلات العسكرية أمام روسيا والصين هو الهدف؟ وهل لو تبنينا التفسير الثاني نعد حقاً من أنصار نظرية المؤامرة في الفكر السياسي العربي المعاصر؟ أسئلة تستحق أن نجيب عنها في المستقبل القريب!