بدأنا- كالعادة- بِلَوم إسرائيل لأنّ ردَّها لم يكن متوازناً ولا متعادلاً مع عملية "حزب الله"؛ بل تجاوز ذلك إلى القيام بحملة ممنهجة لتدمير المرافق الأساسية بلبنان، وإيقاع خسائر كبيرة بالمدنيين؛ بحجة تدمير سلاح الحزب وقدراته. وهكذا فكما لم تقتنع إسرائيل بكلام مسؤولي "حزب الله" أنّ المقصودَ بالعملية تبادُل الأسرى فقط؛ ما اقتنع أحدٌ– أو على الأقلّ من اللبنانيين والأوروبيين– أنّ التصدي لخطر "حزب الله" على إسرائيل، يقتضي إحداث دمارٍ كبير بلبنان كلِّه. تقول الحكومةُ اللبنانيةُ إنها مستعدةٌ للدخول في معالجةٍ لأسباب الأحداث الأخيرة وتداعياتها بعد وقفٍ شامل للنار. وتجيب إسرائيل على ذلك بأشكالٍ مختلفة، تارةً بالقول إنها غير مهتمة إلاّ بإطلاق سراح الأسيرين، وطوراً بأنها لن تقبل وقفاً لإطلاق النار إلاّ بعد إزالة خطر "حزب الله" على الدولة العبرية. وخلال ذلك يعلن الطرفان بشكلٍ أو بآخر عن التفاجؤ قليلاً أو كثيراً من الخصم: الإسرائيليون متفاجئون ببراعة "حزب الله"، وفعالية سلاحه؛ والحزب متفاجئ بفظاعة الردّ الإسرائيلي ونوعيته داخل جنوب لبنان وخارجه. بيد أنّ هذا "الاحترام" المتبادَل لا ينعكسُ تهدئةً أو تفكيراً بالتفاوض (غير المباشر كما حصل في السابق)؛ بل يزدادُ الإسرائيليون تشبثاً بحقّهم في إنهاء خطر "حزب الله"، ويُسارع "حزب الله" إلى إعلان حربٍ مفتوحة على إسرائيل. وسينتهي الأمر بقبول إسرائيل لوقف إطلاق النار عندما ترى مع الولايات المتحدة أنّ الظروف صارت ملائمة (كما قالت رايس لوزير الخارجية المصري.) يملك "حزب الله" – شأنه في ذلك شأن "حماس" و"الجهاد الإسلامي" وغيرهما- منطقاً ثورياً، يشبه منطق الأحزاب القومية والتقدمية في الستينيات والسبعينيات، مغلَّفاً بغلافٍ إسلامي. وبمقتضى هذا المنطق، فإنّ إسرائيل كيانٌ استيطانيٌّ إمبريالي، والكفاح ضدَّه أمرٌ مشروعٌ بغضّ النظر عن التفاصيل، مثل مَنْ البادئ بالهجوم، وحسابات الأرباح والخسائر في كلّ عملية. بيد أنّ هذا المنطق يصطدم بمنطق الدولة، ومنطق الهشاشة الداخلية للتركيبة اللبنانية. وهو المنطقُ الذي تراجعَ على مشارف الحرب الأهلية اللبنانية حين أصرَّ الشارع الوطني(=الجمهور الإسلامي)، وأصرَّت الأحزاب الوطنية(=القومية والتقدمية) على التحالف مع المقاومة الفلسطينية المتمركزة بلبنان والمنطلقة منه. وكانت النتيجةُ نزاعاً داخلياً فتح الباب للاجتياحين الإسرائيليين عامي 1978 و 1982؛ والعودة بعد الانكفاء الإسرائيلي التدريجي تحت وطأة المقاومة اللبنانية، إلى الهشاشة المحروسة من سوريا.. والقصّة بعد ذلك معروفة. فقد أَجرت إسرائيل انسحاباً أخيراً عام 2000، وأُعلن النزاعُ من جديد بشأن مسألتين: مسألة الوجود السوري بلبنان، وبقاء سلاح "حزب الله"،وسيطرته على مناطق في جنوب لبنان. الوَضْعُ مختلفٌ اليومَ عن كلّ الاجتياحات الإسرائيلية السابقة. صحيحٌ أنه في العام 1982 كان هناك خلافٌ سوريٌّ /عراقيٌّ؛ لكنّ صدام حسين كان منهمكاً في الحرب على جمهورية إيران الإسلامية. ولذلك لم يؤثّر سلْباً أوإيجاباً على مجرى الصراع. وفي اجتياحات العامين 1993 و1996 كان جميع العرب مع لبنان، وكانت للبنان أرضٌ محتلَّةٌ لا يستطيعُ المجتمع الدوليُّ منازعتَهُ في الحقّ بتحريرها. وقد تغيَّرت ساحة الصراع ومجرياته الآن؛ بل ومنذ الخروج الإسرائيلي ثم السوري من لبنان. هناك اليومَ صراعان في المنطقة: الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي، والصراع الأميركي/ الإيراني. تجدد الصراع الفلسطيني/ إلإسرئيلي نتيجة انقلاب الإسرائيليين بعد مقتل إسحاق رابين على اتفاقية أوسلو، وصعود نجم الإسلاميين في فلسطين الذين لا يقولون بأُوسلو أيضاً. وكما اكتسب معارضو أوسلو من الجانب الإسرائيلي شرعيةً في الانتخابات والحكومات المتوالية منذ العام 1996، كذلك اكتسب معارضو أوسلو من الفلسطينيين مشروعيةً نتيجة كفاحهم العنيد، وأخيراً نتيجةَ فوزهم في الانتخابات النيابية. ولذلك لا أُفُقَ للحلّ الشامل في فلسطين الآن، وأقصى ما يمكن الوصولُ إليه إذا توافق الأميركيون مع الأوروبيين والعرب: تفعيل "خريطة الطريق"، التي تؤجّل المشكلة دون أن تحلَّها، وهو أملٌ بعيدٌ على أي حال! لا يتأثّر الوضعُ اللبناني كثيراً بالتأزم في فلسطين، رغم محاولات سوريا بعد الخروج من لبنان استخدام بعض الفلسطينيين الموالين لها لإرسال بعض القذائف عبر الحدود، أو الاصطدام بالقوى الأمنية اللبنانية. لكننا نتأثَّر كثيراً- مثلنا مثل العرب الآخرين بالمشرق- بالصراع بين الولايات المتحدة وإيران على النووي وعلى العراق وعلى سوريا وعلى ملفّاتٍ أُخرى كثيرة. وقد حاولت إيران في هجومها الاستراتيجي طوالَ ما مضى من شهور العام 2006 طمأنةَ العرب إلى نواياها؛ إمّا بالقول إنَّ النوويَّ والعراق والأُمور الأخرى، ليس المقصود بها تهديد العرب أو إزعاجهم بل إزعاج الولايات المتحدة (التي غزت العراق)، وإسرائيل(التي ما تزال تحتل أرضاً عربيةً)؛ أو بالقول إنّ العربَ يستطيعون الإفادة من قوة إيران في المنطقة للتوازن مع التعملق الأميركي والإسرائيلي. وما اطمأنّ السعوديون والأردنيون والمصريون إلى شيء من ذلك؛ وإن لم يكتموا خيبتَهم من السياسات الأميركية بالعراق وفلسطين. إنّ الذي يحدُثُ هذه الأيام بلبنان وعلى لبنان، تعبير عن انفجار التوتُّر بين إيران والعالم الغربي بعد فشل محادثات بروكسل (بين الإيرانيين والأوروبيين بشأن العرض الأوروبي للتعويض عن النووي)، وعلى مشارف قمة دول العالم الصناعي الثمان بسان بطرسبوغ( وقد انتهى الاجتماع يوم الاثنين الماضي). وقد كانت تلك الورقة الثانية التي تلعبُها إيران بعد الإطباق على العراق، ولديها أوراقٌ كثيرةٌ أُخرى كلُّها في الملعب العربي. وطبيعيٌّ أن يثير ذلك سخط الأنظمة العربية المشرقية وانزعاجها. وليس ذلك لأنه تحريضٌ لجماهيرها عليها فقط باعتبار أنها لا تقوم بواجبها تجاه قضايا الأمة الكبرى؛ بل ولأنّه ابتزازٌ من طريق فتح جبهةٍ جديدةٍ لا تفيدُ في شيء بل تؤدي إلى تخريب لبنان، وزيادة الصعوبات في المسألة الفلسطينية التي بدأت إيران تؤثّر فيها تأثيراً متزايداً أيضاً؛ بغضّ النظر عن مدى نجاح العرب في السنوات الماضية في تخفيف ضغوط الاستنزاف عن الفلسطينيين. لقد قلتُ من قبل إنّ لـ"حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"حزب الله "منطقاً ثورياً عقائدياً لا يتأثر بالتفاصيل ولا بالانتكاسات. بيد أنّ الجبهة الجديدة في جنوب لبنان لا تفيدُ الفلسطينيين في شيء فعلاً؛ فضلاً على أنها تصنعُ شعباً منكوباً جديداً في بلدٍ عانى من الفوضى والحروب الميليشياوية والاجتياحات الإسرائيلية لحوالي ثلاثين عاماً. وبالإضافة لذلك فإنّ جبهة الجنوب مُريحة للولايات المتحدة(ولإسرائيل) أكثر من جبهة العراق. ففي العراق جنودُها هم موضع الرهان، والرهانُ أيضاً على الديمقراطية المزعومة التي أرادت إقامتها هناك. أمّا في لبنان فالتدميرُ الإسرائيلي مبرّرٌ بأن "حزب الله" هو المعتدي، والأميركيون لا يموتون، وموتى الإسرائيليين قليلون، وقد استعادوا زمام المبادرة باحتكاك إيران بهم بعد أن كان الأميركيون قد كفّوا عن استخدامهم مستغنين بأنفسهم عن الغير حتى عن إسرائيل! وعلى أيّ حال، ليس همّنا هنا إيضاح الميزات التي حصل عليها "حزب الله" أو إيران أو إسرائيل من وراء العمليات الدائرة. لكنّ اللعبة التي تقوم بها إيران خَطِرةٌ على العرب وعلى الشيعة أنفسِهم. فقد استخدمت إيران للمرة الثانية بعد العراق الانتشار الشيعيَّ في العالم العربي لتحقيق أهداف استراتيجية إيرانية. وهناك تظاهرات ضخمة يقوم بها شيعة البحرين بحجة دعم "المقاومة" في لبنان. ولذلك فقد يجد الشيعة العرب أنفسهم رهائن في التجاذب الأميركي/ الإيراني، والعربي /الإيراني الذي بدأت علاماتُه تظهر. وبذلك يتحولون، إلى عاملٍ آخَر من عوامل تهديد الاستقرار في العالمين العربي والإسلامي بعد أن كانت الأنظار موجهةً إلى الأصولية السنية وحسْب. أمّا في لبنان فإنّ المشاكل التي تتخذ الآن صيغةً اجتماعية/ معيشية؛ فقد تتحولُ إلى توتراتٍ شيعية / سنية، وسياسية/ سياسية بعد وقف إطلاق النار. فالمهجَّرون والنازحون بينهم عناصر نظامية همُّها الإثارة والتحريض والتهليل للإصابات المتلاحقة التي يُلحقُها الحزب بإسرائيل وأميركا. وتحتاج الحكومة اللبنانية بالإضافة للإدارة السياسية الرفيعة المستوى فعلاً للرئيس السنيورة إلى مساعداتٍ عاجلةٍ لإعادة ربط المناطق، وبناء المساكن والمرافق التي هدَّمتها إسرائيل، بحيث لا يبقى النازحون في المدارس والمراكز الأخرى لمدةٍ طويلة. ثم تنتظر الحكومةَ اللبنانية قراراتٌ صعبةٌ تتعلّقُ بإرسال الجيش اللبناني للجنوب، ومواجهة محاولات التوتير الأمني والسياسي الذي تقومُ به سوريا وإيران؛ والأهمّ من ذلك : محاولة بعث الروح في التركيبة اللبنانية المتصدعة.