وأخيراً، انتفض الشعب العربي في فلسطين ولبنان، بالإضافة إلى العراق والشعب الإسلامي في أفغانستان والشيشان ضد العدوان الخارجي بروح جديدة، جندي عربي في مواجهة جندي إسرائيلي، خارج دبابته ومصفحته. الضحية في مواجهة الجلاد، الرجل في مواجهة الحصن الحديدي، أسير بأسرى، ويوم أسير إسرائيلي بعشرات السنين من الأسرى العرب، فلسطينيين ولبنانيين ومصريين وعراقيين ويمنيين، تركتهم النظم العربية أسرى لدى إسرائيل. ويرفض الكيان الإسرائيلي تبادل الأسرى طبقاً للمواثيق الدولية بين دولتين في حالة حرب. فالعدو الإسرائيلي لا ينظر إلى العرب نظرة الند للند، بل نظرة الأبيض للأسود والمستعمر للهندي الأحمر، والمستوطن لصاحب البلد... ليس كفؤا في الحرب ولا شريكاً في السلام. والغرب صاحب النزعة الإنسانية صامت حول تبادل أسير بآلاف من النساء والأطفال والشيوخ والشباب. والمحافظون الجدد في البيت الأبيض الذين اختارهم الله لإنقاذ العالم يؤيدون ذبح الأطفال والنساء، وهدم المنازل، وتجريف الأراضي، والعدوان على المدنيين! والنساء تصرخ "واعُرباه"! وليس من معتصم يجيب أو يستجيب. تصمت النظم، فالكرسي هو الدائم، والسلطان هو الأبقى. وتكتفي بدور الوساطة المنحازة إلى العدو الإسرائيلي بمطالبة المقاومة في فلسطين ولبنان بتسليم الأسرى الإسرائيليين دون الإفراج في المقابل عن الأسرى العرب، بل تعتبر بعض النظم أن المقاومة "مغامرة غير محسوبة العواقب"، فتلقي اللوم عليها، وتكتفي بدور الوسيط للتفاوض، فالسلام خيار استراتيجي، وحرب أكتوبر آخر الحروب. فالنظم محايدة بين مقاومة الاحتلال والاحتلال. وهم مجرد أولاد عم للقاتل والقتيل. أقصى ما يستطيعونه، فتح المعابر لإمداد الشعب العربي المحاصر في فلسطين ولبنان بالطعام أو تحويل بعض الأموال أو توفير مواد طبية. فقد تقلص الوطن في الخبز والمرتب من أجل الحرص على حياة الناس تحت الاحتلال. ووسط صمت النظام الرسمي العربي وإحساس الشعوب بالعجز وامتهان الكرامة، تأتي المقاومة الشعبية وحدها في فلسطين ولبنان لترفع هامة العرب. وتُذكّر العدوان الإسرائيلي أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، شعار العرب في الستينيات والذي عليه قامت حرب أكتوبر في السبعينيات. وفي ذروة العدوان على ما تبقى من فلسطين في قطاع غزة، وضرب المدنيين، وهدم مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية، ومباني وزارات الداخلية والخارجية والاقتصاد، تأتي المقاومة اللبنانية لتخفيف الضغط على المقاومة الفلسطينية ومؤازرتها وتوزيع الخسائر على الشعبين الفلسطيني واللبناني دون باقي الشعب العربي خاصة في دول المواجهة والتي أصبحت تسمى دول الجوار. وتصدت المقاومة الفلسطينية واللبنانية للعدو الإسرائيلي كما فعل جيش مصر من قبل في حرب أكتوبر، الجندي في مواجهة الدبابة "لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر" (صدق الله العظيم)، "وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله"، الدبابات الإسرائيلية لم تقو على الدخول وسط مدن القطاع خشية من صواريخ المقاومة وبنادقها الرشاشة. لا يحارب العدو إلا عن بُعد تجنباً للمواجهة بين الغاصب والمغتصب، بين المستوطن وصاحب الأرض. فيستعمل السماء ضد الأرض، الطائرة والصاروخ ضد المنزل والحي والمخيم. وتقبع المقاومة في الأرض، وتتشبث بها لصد الغارات الجوية العنيفة. ليست القضية قضية صورية، علاقة المقاومة الفلسطينية بالسلطة الوطنية، رئاسة أم حكومة، وعلاقة المقاومة اللبنانية بالحكومة اللبنانية لأخذ إذنها، والسماح لها بالمقاومة والوطن محتل. بل القضية قضية تحرير شعب لوطن محتل كما حدث في الجنوب، واستكمال حركة التحرير في ما تبقى من احتلال. وقد تتعدد الآراء حول التوقيت والتنسيق ولكنها تتفق على ضرورة المقاومة الشعبية للعدو المحتل للأراضي العربية. وفي الوقت الذي اختلفت فيه النظم العربية بين نصير للمقاومة والخوف من "المغامرات غير المحسوبة"، توحد العدو الإسرائيلي بين الحكومة والشعب، بين جناحي الائتلاف "حزب العمل" و"حزب كاديما" مع "حزب الليكود" المعارض على ضرورة الاستمرار في العدوان على فلسطين ولبنان. فالعرب لا يعرفون إلا لغة القوة والتأديب من أجل القضاء على روح المقاومة فيهم، ولإجبارهم على الاستسلام التام لإرادة العدو الصهيوني. والفيتو الأميركي في مجلس الأمن بالمرصاد ضد أي قرار، حتى ولو كان ليناً، للمطالبة بإيقاف العدوان على الشعوب طبقاً لميثاق الأمم المتحدة. والصمت الأوروبي تابع للموقف الأميركي. وعجز النظام العربي نتيجة طبيعية للاعتراف بالعدو الصهيوني وتبادل السفراء والتطبيع معه فيما ظلت الأراضي العربية تحت الاحتلال. ولم تنفع مبادئ مدريد، الأرض في مقابل السلام، ولا المبادرة العربية، سلام كامل في مقابل انسحاب كامل. إن اتهام المقاومة بالجنون والمقاومة غير المحسوبة والتضحية بلبنان ونصحها بالتعقل والتروي والتنسيق... إنما يجوز لو كانت ذات التهمة والنصيحة نفسها موجهتين للعدو الإسرائيلي، ولكان الأمر معقولا، عقلا بعقل، وجنون بجنون. لكن ماذا عن خطف ثلث الوزراء الفلسطينيين وعشرات من أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني، والتهديد بقتل رئيس الوزراء، وبتصفية رئيس السلطة الوطنية...؟ لا أحد بمنأى من جيش الدفاع الإسرائيلي، لا يفل الحديد إلا الحديد. كل ذلك يدل على أن الدولة الفلسطينية الموعودة إنما هي محض خيال، وحقنة مخدرة للشعب الفلسطيني حتى يتم تدميره نهائيا، وليبق الفلسطينيون في "كانتونات" عربية داخل إسرائيل التي ابتلعت كل فلسطين، لا فرق بين عرب 1948 وعرب 1967. ولا خوف من تغيير التركيبة السكانية في إسرائيل. فأساليب النازية قادرة على الإبقاء على التفوق السكاني العنصري اليهودي. لم تخسر "حماس" بل عادت إلى أصولها الشعبية وقواعدها في المقاومة. وكسبت "فتح" لأنها في النهاية عادت كمقاومة لتأكيد الوحدة الوطنية الفلسطينية بالاتفاق على وثيقة الأسرى كحد أدنى من البرنامج الوطني. ولم يخسر شعب فلسطين لأنه تصدر المقاومة. وانضمت إليه المقاومة اللبنانية في محيط شعبي عربي وإسلامي واسع تأييداً للمقاومة بعد أن تخاذلت النظم السياسية. لم تعد للأوطان المستقلة حرمة. ولم تعد للعواصم العربية والإسلامية حماية. تغزو الولايات المتحدة بغداد وكابول، وتقوم موسكو بغزو جروزني، وتعتدي إسرائيل على بيروت، مطارها ومستودعات وقودها، ومحطاتها لتوليد الكهرباء، وخزانات مياهها، وجسورها وأحيائها... قُتل الأخ يوم أكل الذئب الثور الأسود، وتهدد دمشق وطهران، أما القاهرة وعمان والرياض فتنصح بالتعقل دون المغامرات غير المسؤولة وغير المحسوبة. إن الصراع مع العدو الإسرائيلي بدأ منذ نصف قرن، وقد يمتد عقوداً أخرى من الزمان بسبب طول عمر النظام العربي. وإذا كانت هزيمة عام 1948 قد أدت إلى الثورات العربية بقيادة الضباط الأحرار في سوريا ومصر والعراق وليبيا واليمن، فإن العدوان الإسرائيلي على ما تبقى من فلسطين في قطاع غزة عام 2006، قد يؤدي إلى ثورة الشعوب الحرة في الحرب العربية الإسرائيلية السادسة. ليس جيشاً في مواجهة جيش، بل شعباً في مواجهة جيش، طريق فيتنام وطريق العراق.