لكي لا تفقد قمة الثماني، التي انعقدت في سان بطرسبرج المدينة الروسية العريقة مصداقيتها -والتي هي أصلاً محل شك كبير- توصل قادة الدول الصناعية الكبرى في الساعات الأخيرة إلى "حل وسط"، تجاه القضية الأكثر سخونة الآن والتي اختلفوا حولها خلافات علنية وسرية موزعين بين موقف أميركي (دعمته كندا وبريطانيا) متشدد كان يريد إدانة واضحة ليس لـ"حزب الله" و"حماس" فحسب، بل تمتد لتشمل إيران وسوريا، ويريد أيضاً تأييداً لإسرائيل غير مشروط حتى في عدوانها وقتلها المدنيين والأطفال اللبنانيين الأبرياء... وموقف فرنسي (دعمته روسيا) كان يريد بياناً متوازياً يؤيد "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، ويستهجن استعمال القوة بشكل واسع ضد لبنان، ما جعل الرئيس الفرنسي "يتشكك في أن هدف إسرائيل من هذه العملية العسكرية الواسعة جداً، قد يتجاوز قضية استرداد الجنود الإسرائيليين الأسرى لدى حزب الله". وهكذا فإن قادة الدول الديمقراطية (وقد كثر تردد كلمة الديمقراطية على ألسنتهم وألسنة المتحدثين الإسرائيليين)، قد تجاوزوا خلافاتهم حول الحرب الحقيقية الدائرة ليس على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية أو الفلسطينية-الإسرائيلية، ولكن في داخل المدن اللبنانية، ليس في الجنوب وحده ولكن أيضاً في الشمال وفي بيروت وصيدا وطرابلس وداخل غزة التي انسحب منها الإسرائيليون قبل أشهر قليلة. ليس الهدف هنا الحديث عن هذا الجنون الذي تريد له إسرائيل أن يجتاح المنطقة بدءاً بأضعف حلقاتها (لبنان) وتفاصيل أبنائه وأخباره، فتلك قد شغلت العالم وأرقت ليل من بقي فيه ضمير إنساني يرى ويسمع ما يجري، وليس الهدف هنا أيضاً الحديث عن العملية العسكرية التي التزم رئيس وزراء إسرائيل بألا تتوقف حتى تحقق غايتها المعلنة (وغايتها المبطنة أيضاً)، إنما الهدف هنا إبراز حقيقة ظلت تطغى على كل الحقائق والأنباء والأخبار المذاعة خلال هذا الأسبوع، وظل "الضرب" على تردادها يتوالى، وكأنه معزوفة منظمة توالي إذاعتها وسائل الإعلام الغربية والإسرائيلية وبوتيرة واحدة، تقول في المقدمة وفي النهاية إن إسرائيل كلها تقف مؤيدة لرئيس حكومتها ولجيش الدفاع الإسرائيلي، وتريد منه أن يواصل الحرب والضرب حتى النهاية، وتستنكر أن يقول لها أحد (تعني المجتمع الدولي... الأمم المتحدة -حلفاءها وأصدقاءها) كفى لقد تجاوزتم الحد. بعبارة أخرى فإن هذا الشعب "الديمقراطي والمحب للسلام" يعتبر نفسه الآن في حالة حرب وطنية دفاعاً عن وجوده وهو في هذا وبرغم هذا لا يطلب من العالم أن يؤيده فحسب، بل إن يقدم له الشكر والثناء لأنه يقذف مطار بيروت المدني بالصواريخ وضربه الكباري والجسور ومحطات توليد الكهرباء في لبنان، إنما يدافع عن العالم الديمقراطي أمام هجمة الإرهابيين الإسلاميين العرب والإيرانيين، وهو بذلك- كما قال سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة- يقدم خدمة للعالم الديمقراطي بما فيه بعض العالم العربي الإسلامي يستحق عليها الشكر والثناء وليس الإدانة! وإذا كانت إسرائيل ترى في حادثة أسر أو اختطاف جنودها، فرصتها التي انتظرتها طوال السنوات الأربع الأخيرة لتفجير الموقف، وفرض سلامها الإسرائيلي على من تبقى من الدول العربية صامداً، على الأقل حتى الآن، فإننا في العالم العربي ما زلنا نفتقد ليس الإرادة القومية الموحدة لمواصلة الصمود، بل إننا نفتقد حتى الإرادة القومية الموحدة للاستسلام لشروط المجتمع الدولي (الولايات المتحدة وإسرائيل ومن لف لفّهما) بشرف يليق بأمة تستحق أفضل من هذه المذلة والإهانة التي تتجرعها شعوبها كل صباح ومساء. ففي وسط كل هذا الذي جرى ويجري، يتلفت الناس البسطاء للقيادة والمسؤولية القومية، فلا يرون إلا الفراغ، وكأنما ما يجري في لبنان وفلسطين هو هم وشغل الثماني الكبار ومجلس الأمن وليس لنا به من علاقة ولا صلة. ورحم الله زماناً كان فيه للعرب قدوة ومثال وصوت فرض على العالم أن يسمعه ويحترمه.