لا يمكن استبعاد أن يتحول العدوان الإسرائيلي المتواصل ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني إلى حرب شاملة, لأسباب عديدة. أول هذه الأسباب أن الحرب الشاملة قد تكون هي أسلوب الولايات المتحدة في الإطاحة بالنظام السوري. ولا شك أن هذا الهدف له أولوية فى الحسابات الأميركية, منذ نهاية عام 1993. وحتى الآن فشلت وسائل الحرب الاقتصادية والدبلوماسية في تحقيق هذا الهدف, بل وفشلت الضغوط العسكرية العابرة أيضاً. وكانت الولايات المتحدة تقيم حساباتها على أساس أن النظام السوري لن يحتمل هذه الضغوط, وأنه سيسقط بسرعة ما أن يوضع في القفص وتتراكم عليه الضغوط. وأثبت النظام السورى أنه أكثر ثباتاً وقوة مما اعتقد الأميركيون. ولذلك لا بد أن إدارة جورج بوش تأمل الآن إمكانية الإطاحة بالنظام السوري عن طريق عدوان إسرائيلي متواصل. والسبب الثانى ووثيق الصلة هو أن الإطاحة بالنظام السياسي السوري تضعف إيران و"حزب الله" معاً, حيث أن الدعم الإيراني لـ"حزب الله" يصل عن طريق سوريا, وحيث أن سوريا هى أهم حلفاء أو فلنقل الحليف الأساسي لإيران في المنطقة, مما يجعل إسقاط النظام السوري ضربة استراتيجية مباشرة وغير مباشرة معاً لإيران, وقد يجبرها على التسليم بالمطالب الأميركية والأوروبية فيما يتصل بالبرنامج النووي وغير ذلك من القضايا. ولا شك أن تصفية "حزب الله" تمثل هدفاً أميركياً وإسرائيلياً مشتركاً, بل قد تحقق مصالح أطراف لبنانية وعربية, من حيث أنه يزيل من اللوحة الاستراتيجية تهديداً دائماً وفعالاً لا تريد الولايات المتحدة واسرائيل أن تتعايش معه في المنطقة. ولذلك مثلت تصفية "حزب الله" واحداً من أهم الأهداف الأميركية وبالطبع الإسرائيلية. سبب رابع لإمكانية تحويل العدوان الاسرائيلى الراهن إلى حرب شاملة، هو أن كسب هذه الحرب يغير معطيات الشرق الأوسط تغييراً شاملاً, وقد يكون الطريق الأقصر لتحقيق التصورات الأميركية حول "الشرق الأوسط الكبير". وبهذا المعنى كان تغيير النظام السوري في الواقع أهم كثيراً من تغيير النظام العراقي السابق. والآن يبدو أن تغيير النظام السوري بالقوة هو أهم آلية ممكنة لضرب المقاومة فى العراق أيضاً. وبذلك تصحح الولايات المتحدة أخطاءها الفنية الكبيرة في تقدير أوضاع المنطقة. وأخيراً, فمن المحتمل أن تفكر إدارة بوش في أن شن حرب كبيرة جديدة في المنطقة هو أنجع الوسائل لتحقيق انتصار كبير في انتخابات التجديد النصفي التى تواجه فيها تحدياً كبيراً. وعندما نتحدث عن تحويل العدوان الراهن إلى حرب شاملة في المنطقة لا نقصد بالضرورة حرباً خاطفة. فثمة ما قد يحول دون الأخذ بهذا الاختيار كما هو واضح حتى الآن. بل إن نفس الاعتبارات التي قد تدفع إلى حرب أميركية- إسرائيلية شاملة في المنطقة هي التي قد تدفع إلى اختيار نمط آخر من الحروب الشاملة ولكن الزاحفة. فالانتخابات الأميركية الأخيرة تتأثر إلى حد كبير بالفشل والتورط الأميركي شبه الميئوس منه في العراق. ودخول حرب شاملة أو تشجيع اسرائيل على القيام بها قد يقدم للمنشقين والمعادين للمشروع الاحتلالي والاستعماري الأميركي داخل الولايات المتحدة ذخيرة جديدة. ومن ناحية أخرى تعلم الولايات المتحدة وإسرائيل أن إسقاط النظام السوري عن طريق الحرب لن يكون نزهة ولن يكون أمراً سهلاً أو قابلاً للتحقيق دون تكلفة كبيرة على المدى الطويل. إذ قد تدفع فيه الولايات المتحدة واسرائيل ثمناً مشابهاً لما تدفعه في العراق. ومن ناحية ثالثة, فأي حرب ضد "حزب الله" ستكون مكلفة كثيراً من الناحيتين البشرية والاقتصادية, بل والعسكرية أيضاً. ولكن هذه الاعتبارات تقلل من قوة الاندفاع الأميركي- الإسرائيلي لمحاولة تغيير خريطة الشرق الأوسط بالحرب, وإن كانت لا تمنعها. بل هي ترشح شكلاً خاصاً من الحروب وهي الحرب الزاحفة والمفتوحة. أما ملامح هذه الحرب فتبدو كما يلي: أولا: الحرب الزاحفة لا تستهدف القيام بأعمال غزو شامل للأراضى, بل تقوم عن طريق الضغط العسكرى المتواصل والذى قد يتم تصعيده أو تخفيضه أو تغيير آلياته تبعاً للظروف وردود الأفعال. ولذلك يستَبعد أن تقوم إسرائيل بغزو شامل للأراضى السورية أو اللبنانية, وإن كان ذلك يعني أيضاً عدم استبعاد احتلال مناطق بعينها والبقاء فيها لبعض الوقت, وتدميرها واستخدامها للضغط ولتصعيد العدوان إن بدا ذلك بدون تكلفة كبيرة. ثانيا: ترك الأمر غامضاً بأفهام وأذهان صانعي القرار في المنطقة عموماً وفي الدول العربية المستهدفة خصوصاً. فإن ثبت بأذهان صانعي القرار أنهم مستهدفون بالإسقاط أو أن بلادهم مستهدفة بغزو شامل، سيكون من المنطقي أن يحاولوا تكبيد الولايات المتحدة وإسرائيل أكبر تكلفة اقتصادية وعسكرية ممكنة، مما يؤثر سلباً على الانتخابات الأميركية بالنسبة لإدارة بوش و"الجمهوريين" عموماً, وبالنسبة لإسرائيل بالطبع. كما أن التكلفة الدبلوماسية والسياسية على المستوى العالمي ستكون كبيرة بأكثر مما تريد إدارة بوش دفعه على المدى الطويل. وثالثا: تنوع آليات الضغط العسكرية خلال أمد زمني طويل نسبياً للحرب الشاملة الزاحفة. فالأمر المهم بالنسبة لإدارة بوش هو أنها تريد أن تحدث التغييرات الاستراتيجية الكبرى في منطقة لم تعد قادرة على التأكد من ردود فعلها واستجاباتها, وهذا هو ما يحول دون الأخذ بفكرة الحرب الخاطفة ويجبرها على عدم إعلان هدف إسقاط النظم أو احتلال الأراضى حتى لا تلتزم بمشروعات عسكرية قد تقودها إلى ورطات مشابهة لحالة العراق. رابعاً: محاولة تحييد بعض النظم السياسية المهمة في المنطقة، من حيث الحسابات الاستراتيجية، خاصة مصر والسعودية, ومحاولة خطب ود قطاعات من المجتمع وخاصة فى لبنان وسوريا بتصوير العمليات الإجرامية التي تقوم بها الولايات المتحدة وإسرائيل كما لو كانت الطريق الوحيد إلى "الحرية". ولا يستبعد في هذا الإطار طرح مبادرات سياسية ودبلوماسية في وقت مناسب لإقناع بعض النظم العربية أن هذه الحرب الزاحفة لن تنته إلى خراب شامل للمنطقة بل "تحمل لها الخير والسلام". ولكن الحرب الزاحفة بهذا المعنى تقبل العمليات الجوية المحدودة أو الواسعة غير المصحوبة بغزو بري شامل, أو المصحوبة بعمليات غزو محدودة, كما تقوم على عمليات الاستخبارات والإبرار الجوي لتخريب أهداف عسكرية أو سياسية, والدعاية المضادة والكاذبة الكثيفة, وتحريض الشعوب, وغير ذلك من أدوات وآليات عسكرية وغير عسكرية. خامسا: إمكانية وقف الحرب إذا ثبت أن تكلفتها من النواحى العسكرية والسياسية أعلى بكثير من مردودها في المديين المباشر والمتوسط الأجل. فتجنب ورطة مشابهة للعراق هو أمر صار محفوراً في أذهان الأميركيين, كما أن تجنب ورطة مشابهة لغزو لبنان والبقاء في جنوب لبنان هو أمر صار محفورا في أذهان الإسرائيليين. ومن هنا، فإن إمكانية تحويل العدوان الراهن إلى حرب زاحفة شاملة يتوقف إلى حد بعيد على استجابة العرب لهذا التحدي, وخاصة فيما يتعلق بالاستجابة العسكرية.