لم يكن المشهد معبراً عن حال العالم العربي كماهو هذه الأيام. الحرب العربية الإسرائيلية السادسة تدور رحاها الآن على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. جميع الدول العربية ليست طرفاً في هذه الحرب. "حزب الله" اللبناني بمفرده هو الطرف الثاني فيها، بل هو الطرف الذي أشعل شرارتها الأولى. وهو في ذلك لا يمثل أية دولة عربية، وبشكل خاص لا يمثل حتى الدولة اللبنانية التي يحمل جنسيتها، وعضو في حكومتها. من ناحية أخرى، وكعادة عربية راسخة في مثل هذه الظروف، هناك نذر حرب إعلامية عربيةـ عربية حول الموقف من هذه الحرب. المشهد معبر لإعتبارات عدة، أبرزها وأهمها أن الحرب التي تدور رحاها الآن هي أول حرب عربيةـ إسرائيلية لا تكون أية دول عربية طرفاً فيها. على العكس الدول العربية، وخصوصاً ما كان يسمى بدول المواجهة، تجد نفسها وسط حرب لم تستشر في شأنها، وقبل إنفجارها لا تعلم عنها شيئاً. لابد من إستثناء سوريا هنا، لأن "حزب الله" لا يستطيع المجازفة بجر المنطقة إلى هذه الحرب وهو يعرف أنها لا توافق عليها. وإذا كان "حزب الله" أهم حلفاء سوريا في لبنان، فإن سوريا أهم حلفاء "حزب الله" في المنطقة بعد إيران. وفي كل الأحوال فإن الحرب قد تتطور إلى حرب إقليمية، وقد تدفع بعض الدول العربية دفعاً إلى حرب لم تكن ضمن حساباتها، ولا تمثل أياً من خياراتها السياسية، بما في ذلك سوريا نفسها. قبل الدخول في بعض من تفاصيل المشهد أشير إلى أن رئيس تحرير صحيفة "السفير" اللبنانية، طلال سلمان، كتب أمس الثلاثاء مقالاً بعنوان "لو ترجيء المملكة عتابها"، عبر فيه عن عتبه على المملكة العربية السعودية لموقفها من فكرة المغامرة. وفي عتبه قدم سلمان موقف المملكة على أنه بحد ذاته عتب على "حزب الله" لتسرعه وإنفراده بمغامرة الحرب. كأنه أراد أن يدفع بالجدل الذي أثاره موقف المملكة داخل لبنان بعيداً عن الصدام معها، أو التشكيك بموقفها من الحرب. وربما أن الأهم في المقالة أنها تتمنى على السعودية لو ترجئ عتبها، مما يعني اعترافاً ضمنيا بأنه كانت هناك مغامرة، لكن الآن ليس وقت اللوم والعتب، بل وقت الدعم والنصرة للبنان واللبنانيين. هل تورط "حزب الله"، وورط معه لبنان والمنطقة في مغامرة غير محسوبة؟ وهل كان على السعودية أن تصمت وهي تعرف ذلك؟ أو تستشعر مخاطر ذلك عليها وعلى المنطقة؟ حقيقة الأمر أنه لا يجوز أن يكون هناك اختلاف على أن قرار السلم والحرب هو من إختصاص الدولة، والدولة وحدها. أهم ركائز الدولة وخصائصها على الإطلاق هو قدرتها على احتكار مشروعية استخدام، أو التهديد باستخدام وسائل العنف، وفي مقدمتها احتكار قرار السلم والحرب. من دون ذلك لا تكون هناك دولة. وعليه لا يجوز، لا سياسياً ولا قانونياً، أن ينفرد حزب من أحزاب الدولة، وبمعزل عن علم الدولة كلها، بأهم وأخطر قرار، وهو قرار السلم والحرب. مثل هذا الإنفراد، والإصرار عليه يوحي أولا بالإنقسام، وثانياً بضعف الدولة أمام الدول الأخرى. ويوحي ثالثا بأن الطرف الذي يصر على هذا الإنفراد يملك نزعة ديكتاتورية وإملائية مرفوضة يعرف قادة "حزب الله" أنها أهم الأسباب وراء تدهور الأوضاع السياسية في العالم العربي. الإنفراد بأهم وأخطر قرار، وبمعزل عن الجميع هو بلا شك شكل من أشكال المغامرة. قد تنجح المغامرة ، لكنها قد تنتهي بكارثة. وهنا مكمن الخطأ، بل والجناية. ففي حالة النجاح يكسب المغامر كل شيئ على حساب الآخرين. وفي حالة الفشل يعمل على إسكات الآخرين بدعوى "إنني إجتهدت، وعليكم أنتم أن تجتهدوا". بعبارة أخرى، مصالح الآخرين، ومواقفهم لا قيمة لها. وفي هذه الحالة تتأكد النزعة الفردية، وتغيب فكرة المؤسسة، بل تغيب فكرة الدولة، ويتعلق مصير الأمة بالمغامرة. هل هذا معقول؟ مغامرة من هذا النوع لا تحدث إلا في العالم العربي، حيث فكرة الدولة، وفكرة القانون والمؤسسة ضعيفة، وتحديداً في لبنان حيث أضعف أشكال الدولة العربية. وليس سراً أن "حزب الله" هو أقوى من الدولة سياسياً وعسكرياً، ولهذا السبب يملك أن يتحدى الدولة ويذهب في مغامرته إلى حيث يشاء، والدولة لا تملك شيئاً تفعله في هذه الحالة. هل توقع "حزب الله" حجم وقوة ردة الفعل الإسرائيلية؟ ما حدث لغزة نتيجة لعملية "حماس" المشابهة يوحي بحجم وقوة ردة الفعل هذه. مهما يكن تعرف قيادة "حزب الله" أنها دخلت الحرب من دون غطاء عربي، أو دولي. بل دخلت من دون غطاء محلي، لأن الحكومة اللبنانية فوجئت بالعملية. هل يمكن لـ"حزب الله" أن يغامر بدخول حرب بهذا الحجم والقوة وهو أعزل، لا يتمتع بأي غطاء سياسي، ومن دون مصادر دعم عربية وإقليمية؟ طبعاً لا يمكن. وبما أن الحزب يتمتع بدعم عسكري وسياسي من إيران وسوريا، فإن الغطاء الذي يتحرك في ظله هو غطاء إيراني أولاً وسوري ثانياً. إذن يتحرك الحزب في سياساته ومغامراته خارج المظلة الإقليمية العربية، وداخلها في الوقت نفسه. أسباب ذلك متعددة، منها ماهو محلي لبناني، ومنها ماهو إقليمي، ومنها ماهو عربي. ولا ننسى هنا أن لـ"حزب الله" أكثر من هوية. فهو حزب عربي لبناني، وحزب شيعي، تمشياً مع التركيبة الطائفية للنظام السياسي اللبناني. في سياساته المحلية يرتبط "حزب الله" بسوريا كمصدر دعم له في الداخل، لكن مرجعيته الأيديولوجية الدينية، وتوجهاته السياسية الإقليمية مرتبطة أيضاً بالنظام السياسي الإيراني. هذا لا يعني أن قيادة "حزب الله" عميلة لإيران. هناك حقائق تفرض نفسها هنا. "حزب الله" شيعي، ومذهب الدولة في إيران هو المذهب الشيعي. هنا التقاء أيديولوجي. ثم هناك حقيقة أن لبنان، والمنطقة تواجه دولة إستعمارية إستيطانية عدوانية، تنفذ سياسة هجومية ممنهجة وشرسة. في مقابل ذلك هناك من ناحية عجز عربي واضح، ومن ناحية أخرى تنام واضح أيضاً للقوة الإيرانية وللدور الإيراني في المنطقة. تبدو إيران هنا وكأنها تطمح إلى استغلال الفراغ الذي أحدثه ويحدثه العجز العربي، وتعمل على تجييره لصالح دورها الإقليمي. من هنا نظرت دول عربية، وفي مقدمتها السعودية، إلى عملية الحزب الفدائية على أنها مغامرة غير محسوبة، لأنها أدخلت المنطقة إلى حرب وفقاً، على الأغلب، للإستراتيجية الإيرانية بشكل أساسي. وجدت السعودية نفسها أمام حرب لم تستشر فيها، وتستريب من الأهداف التي دفعت بالحزب إليها، ومدى إنعكاس ذلك على مصالحها في لبنان والمنطقة ككل. ومن هنا جاء موقف المملكة، ولأول مرة، واضحاً وقوياً ومباشراً من دون مواربة. ربما أن موقف المملكة هذا فاجأ الجميع، وربما أربك البعض. حق السعودية في التعبير عن مخاوفها وشكوكها، وفي الإصرار على أنها لا يمكن أن تترك سياستها الإقليمية رهناً لقرارات لا تعرف عنها شيئاً، أمر مفروغ منه. والذي يبدو أن إيران أدركت ذلك، فسارعت إلى إرسال مستشار أمنها القومي، على لاريجاني، إلى الرياض. في الوقت نفسه يجب مواجهة حقيقة أن الذي ترك الساحة مشرعة أمام "المغامرات غير المحسوبة" هو غياب الدور العربي في الصراع مع إسرائيل، وغياب الدور العربي أمام الوجود الأميركي، والهجمة الأميركية في المنطقة. ما كان يسمى بالسلام مع إسرائيل أخرج من إطار الأمم المتحدة، وترك في يد الولايات المتحدة. وهذه، وكما إعترف عمرو موسى أخيراً، تركته في يد السياسة الإسرائيلية. كان ولا يزال العجز العربي واضحاً، بل وفاضحاً أمام الغطرسة الإسرائيلية، والتوسع الإستيطاني الإسرائيلي، والعدوانية الإسرائيلية. وهذا يشكل تهديداً للمصالح العربية، ولموقع الدول العربية في المنطقة. بل إن العجز العربي يكاد يكون كاملاً وشاملاً، ولا يبدو أن له حدود. يبدو وكأن العرب لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً في العراق أو للعراق، ولا في فلسطين أو لفلسطين، ولا في السودان أو للسودان، ولا في الصومال أو للصومال، ولا في لبنان أو للبنان. الإنهيارات العربية تتوالي في المنطقة، والملفات العربية الرئيسية خرجت من أيدي العرب، وأصبحت في أيدي الأميركيين والأوروبيين والإسرائيليين. لا يجوز أن يقتصر الدور العربي إما على وساطة باهتة لا تقدم ولا تؤخر، كما هو حال مصر حالياً، أو دور تقديم المساعدات لتخفيف وطأة النكبات العربية التي لا يبدو أن لها نهاية. تراجع الدور العربي إلى هذه الحالة هو الذي فتح الباب أمام المغامرات غير المحسوبة.