عاش فرانز كافكا في براغ في جو مشحون بالكراهية، حيث اختلفت الأعراق والأديان، فكان كل عرق يحتقر العرق الآخر، ولا يثق به، ويكرهه، ويخاف منه، كما ذكرت ذلك المتخصصة في الجرمانيات ايرمجارد فاجنر، وكان هذا الجو الذي سبق الحرب العالمية الأولى، عندما وقف اليهود وبشكل عجيب إلى الجانب الألمان، ولم يكن يخطر في بالهم أن النازية ستعشش وتفرخ في أحضان الألمان. صدر كتاب كافكا "التحول" قبل الحرب العالمية الأولى بفترة قصيرة. ومن أجل البقاء فقد حرص والد كافكا، على تدريس أفراد عائلته كل شيء باللغة الألمانية، بدل التشيكية خوف الاضطهاد الذي رآه كافكا عياناً، حرقا للكتب في الساحات العامة، ما يذكر بذلك الهوس من محاكم تفتيش العصور الوسطى، ومطاردة الساحرات، وحرق القطط والكلاب، ومعالجة السعال الديكي بلبن الحمير، وطرد الطاعون بجلد الناس أنفسهم في البراري، أو الدعاء من أجل تبدل مزاج المريخ. أما في المستوى الشخصي فكان كافكا حساساً جداً للأصوات العالية والجنس الذي كان يسميه مرض الغرائز. مع هذا فقد أحب "ميلينا سينسكا" التي منحته الحب الحقيقي، وبكل أسف كانت متزوجة، وهكذا تعيش الكثير من النساء، في طلاق صامت، فتحب بدون زواج، وتتزوج بدون حب، كان ذلك في الكتاب مسطورا. وكان مصيرها الموت في معسكرات الاعتقال، وكذلك كان مصير أخواته الثلاث في محارق النازية. أما هو فبعد أن استهلكته الأفكار التي كان يصفها بقوله: "نحن بحاجة إلى كتب تحزننا كثيراً، كموت شخص نحبه أكثر من أنفسنا، حتى يجسد الكتاب فصول البحر المتجمد داخلنا"، وهو الشعور الذي ما زال يستولي علي أنا شخصياً بعد خسارة أعز إنسان علي، ألا وهو زوجتي ليلى سعيد داعية اللاعنف التي اقتلعت قلوبنا من صدورنا بعد موتها، فهي من منحتني كؤوس الحب دهاقاً. فكسرت المسلمة اليونانية في استحالة الجمع بين الزوجة والحبيبة. وبعد عام 1918 حرمت كتب كافكا، بما فيها "التحول" و"المحاكمة"، حيث كانت تسيطر بيروقراطيات مخيفة على أقدار الناس، وتفصل الأحكام على شهية المخابرات، كما يحصل في بعض الأنظمة العربية الحالية. وكانت الكتب تحرق وكان عمدة مدينة براغ يومها يرى في ذلك دلالة طيبة على "الوعي الوطني". وفي ليلة شنق 19 أخاً للسلطان العثماني، وذلك بفتوى من مشيخة الديار العثمانية، واستناداً إلى آية قرآنية هي "والفتنة أشد من القتل"، فيقتل الأخوة حتى لا تقع الفتنة، والقتل رأس كل خطيئة وفتنة، وهو المدخل الوجودي لأول سؤال طرحته الملائكة عن معنى خلق الإنسان:" أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟". عالج كافكا ظروف الاضطهاد بالفكاهة، واعتبر شارلي شابلن نموذجاً جيدا في هذا، عن الآلية والروتين، التي تقتل الإبداع عند الإنسان، واعتبرها نوعا من الكارتيه النفسي من أجل البقاء. بعد إصداره كتاب "التحول" بسنتين، بدأ كافكا يسعل ويبصق الدماء، فقد هبط على صدره السل الرئوي، وانتقل في سبع سنين إلى العديد من المصحات بدون فائدة، ومات وهو في الأربعين من عمره. كان يرى العالم بشفافية ووضوح هائلين، جعلته لا يتحمل الحياة، فأجبره المرض على الاستقالة من الحياة. وكما مات "غريغور سامسا" في قصة "التحول"، بعد أن حبسته العائلة لتحوله إلى حشرة، معتقدة أنه خرج من فصيلة بني آدم، وكان هو في جلد الحشرات يسمع ويفهم محروماً من الدفء الإنساني، وفي ذلك ترميز عميق لبرودة الحضارة الحالية التي تسعى في الأرض فتفسد مرتين باستهلاك الموارد وتلويث البيئة. وفي فجر أحد الأيام قرر غريغور (الحشرة) أن يموت بإرادته فيريح العائلة من عبئه، بعد أن قررت أخته التخلص منه. وكذلك يولد الناس للعبودية في ظل أنظمة الاستبداد، فيتحولون إلى حشرات ونبات شتى، فيموتون قبل الموت ميتات وميتات. لم يعش كافكا ليرى الأنظمة الشمولية من النازية والشيوعية، فقد أراحه السل من هذا المنظر ووفر أوجاعه. أما نحن فمازلنا في اليأس مقيمين، في ظل أنظمة شمولية لا أمل في الخلاص منها. ويتعاون كل من الجامع والجامعة على رفع شامخ بنيانها مع طلوع كل شمس.