تتبعنا في المقالات السابقة الأسماء التي أطلقها الله تعالى على القرآن الكريم، أولاً بأول، معتمدين في ذلك على سور القرآن حسب ترتيب النزول. وهكذا فبعد "الذكر" وما اشتق منه، والحديث، ثم القرآن، جاءت سورة الأعراف باسم جديد هو "الكتاب". وقد حدث ذلك في الوقت المناسب. فالقرآن كان ينزل منجماً مفرقاً، وكانت قريش تتحدى النبي عليه الصلاة والسلام أن يأتي به مجموعاً في كتاب، كما كان الشأن مع الكتاب/التوراة الذي جاء به موسى. وقد أنزل الله سورة الأعراف مرة واحدة– حسب بعض الروايات- فجاءت في حجم كتاب من كتب أهل الكتاب فاستحقت أن تسمى وحدها كتاباً، كما بينّا ذلك في المقال السابق. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يكن الاعتماد على حفظ القرآن من الضياع مقتصراً على تكرار قراءته وتسجيله في الذاكرة الفردية والجماعية، بل كان يكتب أيضاً في ما تيسر من سعف النخل وقطع الجلد وورق البردي... الخ، ثم ما لبث أن أصبح "مكتوباً" في صحف يتزايد عددها باستمرار، وصار بالتالي يستحق اسما آخر من هذه الجهة، فسمي بـ"الكتاب". وهذا ما سمته به سورة الأعراف نفسها. وإطلاق اسم "الكتاب" على القرآن عملية ذات مغزى، فهي تنقل العرب من وضع أمة "أمية" لا كتاب لها إلى وضع أمة لها كتاب، وفي الوقت نفسه تجعل حداً لاحتكار اليهود والنصارى للقب "أهل الكتاب". إنها عملية مزدوجة تتطلب إعادة ترتيب العلاقة مع قريش من جهة ومع أهل الكتاب من جهة أخرى. بدأت سورة الأعراف نفسها في أداء هذه المهمة بمخاطبة العرب أولا، كما رأينا من قبل. وبما أن ذلك لم يكن ليكفي أمام عناد قريش وتعنتها فقد اتجهت سورة الأعراف إلى قريش وخاطبتهم بضمير الغائب، فقال تعالى: "وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ (هو القرآن، أنزلناه عليك يا محمد) فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ، هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (الأعراف 52). والمعنى الذي يعطيه السياق كما يلي: الله فصَّل في هذا الكتاب أخبار الأمم الماضية مع أنبيائهم، وقد فعل ذلك بعلمه المحيط بكل شيء، ولذلك جاء هذا الكتاب بأخبار عن أنبياء لم يذكروا في التوراة، وقد كانوا قبل موسى وكانت قرى أقوامهم على طريق أهل مكة في تجارتهم فهم يعرفونها. ويضيف: لقد بينا في هذا الكتاب ما آل إليه أمر هذه الأقوام عندما كذبوا رسلهم إذ دمرنا قراهم. ونحن سنخبرك عنهم يا محمد في هذا الكتاب/السورة، هداية لقومك ورحمة بالمؤمنين. وهكذا فبعد أن تحدثت السورة عن قصة آدم وإبليس وقصة نوح والطوفان، وهما من القصص السابقة على قصص أنبياء بني إسرائيل، تنتقل إلى تذكير قريش بأخبار أنبياء خاصين بالعرب هم أقدم، في التسلسل الزمني المعتمد في القص القرآني، من قصص أنبياء بني إسرائيل. وقريش تعرف هؤلاء الأنبياء وتعرف أقوامهم، كما تعرف ما تبقى من آثار قراهم: قرى عاد (في الأحقاف باليمن) ونبيهم هود، وثمود (في الحجر على الطريق إلى الشام) ونبيهم صالح، وأهل مدين (بمعان، على أطراف الشام ونبيهم شعيب)، وأهل قرية سدوم (على شاطئ البحر الميت) مع لوط ابن أخ إبراهيم جد العرب، كما يقول النسابون. للعرب إذن تاريخ خاص بهم على مسرح النبوة والرسالات السماوية، هو ذلك الذي تحكيه قصص عاد وثمود ومدين... الخ مع أنبيائهم ورسلهم. ولما كان الأمر كذلك فلماذا لا يكون محمد بن عبد الله، وهو المعروف عندهم بـ"الأمين" رسولاً إليهم يحمل "كتاباً" من الله "يخرجهم من الظلمات إلى النور"، ويدخلهم في زمرة "أهل الكتاب"؟! سؤال لم تع قريش أبعاده إلا بعد هجرة النبي إلى المدينة وتغيير القبلة، كما سنبين لاحقاً. أما الآن، وهم ما زالوا في موقع القوة، في مكة، فهم يواصلون تكذيبهم وإعراضهم. ومن أجل تثبيت فؤاد النبي وتسليته يذكره القرآن بموقف الأقوام الماضية مع أنبيائهم. يقول تعالى: "وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُر (الكتب) وَبِالْكِتَابِ الْمُنِير"ِ (=التوراة - فاطر 25). من ذلك عدد من الأنبياء والرسل ابتداء من إبراهيم شيخ الأنبياء فينبغي التذكير بها في القرآن/الكتاب: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ (القرآن) إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا"... "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا" (مريم 41/ 51 ورتبتها 44). بل إن الكتاب/القرآن يتضمن أخبار رسل لم يذكروا في الكتاب/التوراة، من ذلك إدريس: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (مريم 56)، ومن ذلك أيضاً إسماعيل جد العرب: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا". (مريم 54)، هذا فضلاً عن أنبياء من العرب البائدة، ذكرنا بعضهم، مثل هود نبي قوم عاد وصالح نبي قوم ثمود... الخ. وبعد، فهل تم إقناع قريش، هذه المرة، بأن القرآن الذي أتى به محمد بن عبد الله هو فعلا كتاب سماوي؟ يمكن أن نقرأ رد فعل قريش في السور التي تلت سورة الأعراف (رتبتها 39) غير بعيد منها. ففي سورة "الفرقان" (ورتبتها 42) نصادف في مستهلها اسما جديداً للقرآن/الكتاب هو "الفرقان"، أي الذي يفرق بين الحق والباطل. وأول شيء تُمَيِّز فيه هذه السورة بين الحق والباطل هو العقيدة المحمدية في مقابل عقيدة المشركين. لقد أكدت أن الله لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك. وفي هذا ترد سورة الفرقان على مشركي مكة الذين كانوا يصفون الملائكة بأنهم "بنات الله"، ثم تعيب أولئك المشركين بأنهم اتخذوا من دون الله آلهة لا قدرة لها على القيام بأي شيء، وهي الأصنام. ذلك قوله تعالى: "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً، وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً" (الفرقان 1/3). هذا هو الفرقان الأول. أما الفرقان الثاني فيأتي مباشرة للرد على مشركي قريش، هؤلاء الذين كذبوا محمدا بن عبد الله فيما بشر به من أن القرآن كتاب من عند الله كسائر الكتب السماوية. لقد كان رد فعلهم أن ما قال به محمد من أن القرآن كتاب وما جاء به من أخبار الأنبياء إن هو إلا أساطير الأولين ينقلها من كتب أهل الكتاب إذ يمليها عليه صباح مساء بعض الموالي من النصارى الذين كان يجلس إليهم ويحادثهم أمام الملأ (يذكر المفسرون أسماءهم مثل جبر وعدَّاس... الخ). ذلك قوله تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ! فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً" (الفرقان 4/5). والجدير بالإشارة هنا أن هذا الاتهام من جانب قريش قد تكرر، وتكرر معه رد القرآن عليهم. قال تعالى: "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ! لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ، إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (النحل 103/ 104).