أولى تجارب الولايات المتحدة الأميركية مع استخدام القوة العسكرية للاحتلال وإعادة البناء الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للدول المحتلة كان في ألمانيا واليابان في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ويعول نجاحها بأن اليابان وألمانيا كانتا دولتين متطورتين أصلاً وصاحبتي ثقافة سياسية واجتماعية جيدة، وتعتبر الولايات المتحدة حالتي ألمانيا واليابان معيارا لبناء الأمم بعد النزاع المسلح، ثم تدخلت واشنطن في الكثير من البلدان لمحاولة نسخ هذين النجاحين الفريدين بصورة قريبة وبنتائج مختلفة مثل كوريا الجنوبية وفيتنام والصين وقبرص وأفغانستان وفلسطين ولبنان وجمهورية الدومينيكان ولم يتحقق النجاح المطلوب. احتلت الولايات المتحدة العراق على أساس إعادة بناء الدولة العراقية، وكانت ترى بأنه نموذج ناجح للتطبيق السياسي والاقتصادي والثقافي في الشرق الأوسط، غير أن النموذج العراقي لم يتطور بصورة حسنة لأن الإطار العام (الشرق الأوسط ودول الجوار) يتحكم في مصير النموذج العراقي ومستقبله الذي هو جزء من مستقبل الشرق الأوسط. تواجه الإدارة الأميركية وسياستها في الشرق الأوسط ثلاث أزمات حقيقية، تتمثل في إمكانية اندلاع حرب أهلية في العراق وتضارب توجهات واشنطن مع حلفائها والدول الكبرى حول الملف النووي الإيراني، أما الأزمة الأكثر تعقيداً فهي العمليات العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة بسبب قضية الأسير الإسرائيلي، التي أصبحت قضية أشمل من ذلك، فهي محاولة إثبات عجز حكومة "حماس" في القيادة الفلسطينية، كما أن التصعيد العسكري بين "حزب الله" وإسرائيل أخذ بعداً إقليمياً ودولياً على خلفية قتل وأسر جنود إسرائيليين، فالواضح أن إسرائيل أفرطت في استخدام القوة العسكرية تجاه قطاع غزة ولبنان. أثبت "حزب الله" بأنه فاعل دولي وإقليمي وغير مرغوب فيه من بعض الفاعلين الإقليميين في الشرق الأوسط رغم أنه يحظى بالدعم من إيران وسوريا ومنشق عن التنسيق مع الحكومة اللبنانية، والذي أتضح من خلال التصريح الصادر من المملكة العربية السعودية والذي يصف بما قام به "حزب الله" بأنه مغامرة غير محسوبة دون الرجوع إلى السلطة الشرعية ودون التنسيق مع الدول العربية. وجاء في البيان السعودي أن الوقت قد حان لأن تتحمل هذه العناصر وحدها المسؤولية وأن يقع عليها وحدها عبء إنهاء الأزمة التي أوجدتها. ودعت السعودية إلى التمييز بين المقاومة الشرعية والمغامرات غير المسؤولة، وكان هذا أيضاً رأي مصر والأردن، كما أن إعلان قيادة "حزب الله" عبر السيد حسن نصر الله حول جعل الحرب مفتوحة، إنما ينم عن ضبابية هذه الحرب، هل هي حرب ميليشيات أم حرب تقليدية أم حرب حديثة؟ فحتى الحرب العراقية- الإيرانية تصنف في المعايير الدولية بأنها ليست حديثة بسبب طول فترتها وعشوائية الأهداف والخطط وعدم استخدام الطاقات القصوى في الحرب. ويعود تزايد التأييد الشعبي لـ"حزب الله" إلى عدم وجود فاعلين دوليين (من الدول العربية) تحرك في ظل التطورات في فلسطين والمنطقة وغياب القرارات والشرعية الدولية. تبرز الأحداث الجارية بين "حزب الله" وإسرائيل والواقعة نتائجها التدميرية على لبنان أوجها كبيرة للمعادلة السياسية في المنطقة، التي تتجاوز الطرفين (حزب الله وإسرائيل) التي تتمثل في:- أ- الملف النووي الإيراني: تستخدم طهران "حزب الله" لتحسين شروط التفاوض والتأثير على المجتمع الدولي، فطهران تتمسك بحقها في تخصيب اليورانيوم وترى أن واشنطن تهدف لحرمانها من التقدم كدولة حديثة وبالإضافة إلى استخدام "حزب الله"، فإن إيران قامت بتسليح الميليشيات العراقية بمن فيهم جماعة مقتدى الصدر وميليشيات عبد العزيز الحكيم ورفضت هذه الميليشيات نزع السلاح مما أدى إلى التأثير السلبي على قرارات الحكومة العراقية ومصداقيتها. ب- فقدان الاتصال الأميركي مع إيران؛ فواشنطن ليست لديها أي فرص للتأثير المباشر على طهران، لأن الإدارة الأميركية رفضت التعامل مع "حماس" وسوريا و"حزب الله"، وبذلك ستحاول واشنطن كالعادة البحث عن مخرج عبر السعودية ومصر للتأثير على سوريا والتي من خلالها يتم الاتصال مع إيران. ج- الاستقرار اللبناني: هذه الأحداث الجارية ربما تؤكد بأن دمشق هي اللاعب الرئيسي في عملية استقرار لبنان حكومةً وشعباً وكان هذا خلاصة ما صرح به الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط في حديثه لصحيفة فرنسية بما سماه زعزعة استقرار لبنان، وبذلك فإن تهديد سوريا يقابله زعزعة في لبنان والعراق وفلسطين وكل ذلك فيما يسمى دوران سوريا في الفلك الإيراني من أجل الحفاظ على أمنها. د- جدلية الأمن: الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وسوريا وأمنها القومي المتعلق بإسرائيل، والمتغيرات اللبنانية والعراقية، والتداخل الإيراني العقائدي والعسكري والسياسي عبر الميليشيات في العراق ولبنان وسوريا وفلسطين، يجعل أمن إسرائيل يتجاوز دول الجوار ويقابل النفوذ والدور الإيراني في المنطقة ويجعل إمكانية امتلاك إيران التقنية النووية التهديد الأكبر للأمن الإسرائيلي. ويمكن استخلاص بأن هذه الدول والجماعات أصبحت المحاور المهمة في معضلة السلام في الشرق الأوسط.أما الولايات المتحدة المتواجدة في المنطقة، فإن طهران تراهن على الوضع الأميركي في العراق واستخدام إسرائيل القوة العسكرية ضد الفلسطينيين ولبنان والتحدي الآتي للولايات المتحدة من كوريا الشمالية وبوادر زعزعة الأمن في أفغانستان وتزايد المناهضين للسياسات الأميركية في المنطقة. تعكس الأحداث الجارية في لبنان من تصعيد "حزب الله" والقيادة الإسرائيلية والخطاب السياسي الثوري الإيراني بأن لبنان أصبحت ضحية إعادة الأهداف والسياسات والمفاوضات في السياسة الأميركية تجاه العراق وقيادة "حماس" والملف النووي الإيراني ووضع سوريا ومعضلة السلام في الشرق الأوسط. *باحث إماراتي في العلوم السياسية he_almansory@yahoo.com