مع تزايد حدة العنف الطائفي في العراق, اتجه الكثير من سُنة العراق، خاصة القادة الدينيين والسياسيين إلى التخلي عن تشددهم السابق في رفضهم للوجود الأميركي في بلادهم, إلى المطالبة ببقاء تلك القوات من أجل حمايتهم من هجمات المليشيات الشيعية والقوات الحكومية التي يديرها الشيعة عليهم. وكانت هذه الالتماسات قد تكثفت بصفة خاصة على إثر المذابح وحمامات الدم الطائفية التي وقعت في صفوف المسلمين السُنة في شهر فبراير المنصرم, غير أنها بلغت ذروتها مؤخراً مع إقدام المليشيات الشيعية على إطلاق الرصاص نهاراً جهاراً على مجموعة من المدنيين السُنة في العاصمة بغداد وغيرها من المناطق المختلطة السكان في أنحاء متفرقة في وسط البلاد. كما ينظر المسلمون السُنة إلى القوات الأميركية باعتبارها صمام أمان لهم ضد ما يسمونه "أفعال إيران" في بلادهم على حد قول دبلوماسي أميركي رفيع المستوى في بغداد. وقد عبر المسلمون السُنة عن رغبتهم هذه من خلال محادثات جرت بينهم والمسؤولين الأميركيين في الأسابيع القليلة الماضية. على أن ذلك لا ينفي تعبير القادة السنيين أنفسهم عن أنه ليس ثمة ود جديد نشأ بينهم وأميركا. بل وللحقيقة فقد أكد كثيرون منهم تعاطفهم حتى الآن مع التمرد المعادي للوجود الأميركي, وعن احتقارهم لإدارة بوش. وجاء من رأي هؤلاء أيضاً أن الغزو الأميركي هو الذي فتح الباب أمام تزايد النفوذ الشيعي في بلادهم, بسبب الدعم الذي تقدمه له إيران. ولكن أعلن القادة السُنيون أنفسهم عن تخليهم في الوقت الراهن عن مطالبهم السابقة بالانسحاب الفوري للقوات الأميركية. بل طالب بعضهم بزيادة عدد القوات الأميركية حتى تتم السيطرة على دوامة العنف وموجة الفوضى العامة الجارية الآن. ويعد هذا الموقف الجديد التطور الأهم من نوعه في سلوك العراقيين إزاء الوجود العسكري الأميركي منذ لحظة الغزو. ومن شأنه أن يؤثر على قرار البيت الأبيض السابق الخاص بخفض عدد القوات الأميركية في العراق البالغ عددها 134 ألف جندي, فضلاً عن احتمال مساعدته للأميركيين في جهود توسيع دائرة الحوار مع بعض عناصر التمرد هناك. لكن وفي المقابل يثير هذا التقارب الأميركي السُني حفيظة وردود فعل المسلمين الشيعة الذين يشكلون نحو 60 في المئة من السكان, ويرون أنهم "خضعوا لقهر السنة" وجرى قمعهم سياسياً لعدة عقود خلت. يذكر أن المتمردين السُنة كانوا قد خاضوا حرب الشوارع ضد القوات الأميركية في حي الأعظمية بشمالي بغداد. أما اليوم فتنهال عليهم قذائف الهاون التي تطلقها عليهم المليشيات الشيعية عدة مرات في الأسبوع الواحد. واضطرت مجموعات الحراسة السنية لإقامة المتاريس حول الحي, أملاً في وقف الهجمات والاعتداءات الشيعية على السكان المدنيين. لذلك وما أن دخل إلى الحي أول فوج عسكري أميركي, حتى صاحت مهللة مكبرات الصوت من مسجد الإمام أبي حنيفة, حيث ألقى صدام حسين آخر خطبه العامة قبل سقوط بغداد عام 2003. وكان النداء الذي بثته مكبرات الصوت يقول: لا تطلقوا النيران... فالأميركيون قادمون إلينا مع قواتنا العراقية. وقد ملأ ذلك النداء شوارع الحي الذي لا يزال سكانه على تأييدهم القديم للرئيس المخلوع صدام حسين. وأضاف النداء قائلاً: فهم هنا من أجل مساعدتنا. وفي وقت متأخر من اليوم نفسه قال إمام المسجد الشيخ عبد الوهاب العظمي في حوار صحفي أجري معه: "أنظر إلى ما تفعله بنا المليشيات حتى في ظل وجود الأميركيين. ولك أن تتخيل ما سيفعلونه في حال رحيلهم عنا! بل وحتى في محافظة الأنبار, وحيث كان المتمردون يخوضون حرب عصابات شرسة ضد القوات الأجنبية, طالبت مجموعة من القيادات الدينية والسياسية هناك بتطعيم الوحدات العسكرية العراقية فيها ببعض الجنود الأميركيين. أما في الفلوجة فكثيراً ما تكررت شكوى القادة والشيوخ للضباط الأميركيين عن المضايقات وإطلاق النار العشوائي على المواطنين من قبل القوات العراقية. وبهذه المناسبة يذكر أن حزب طارق الهاشمي –وهو سني عربي شغل منصب نائب الرئيس العراقي سابقاً- كان شديد التمسك بمطالبته بالانسحاب الفوري لكافة القوات الأجنبية. غير أنه قال إن الوضع قد اختلف تماماً الآن. ولذلك فإني لست راغباً في أن يودع أراضينا الأميركان. فما أن يغادروا حتى تندلع نيران الحرب الأهلية, جراء الفراغ الأمني الذي سيخلفونه وراءهم. يشار هنا بوجه خاص إلى أن زلماي خليل زاد السفير الأميركي في العراق, كان في مقدمة صفوف المسؤولين الأميركيين الذين بذلوا جهوداً مضنية ومتواصلة في سبيل إلحاق المسلمين السنة بالعملية السياسية هناك. وكان جزء لا يتجزأ من تلك العملية, الانقضاض على المليشيات الشيعية والدفع باتجاه إصدار عفو عام عن بعض العصابات والمليشيات الطائفية المسلحة. وخلال الشهر الجاري شنت القوات الأميركية عمليات مكثفة ضد "جيش المهدي", وهو عبارة عن مليشيا شيعية مسلحة. وفي الاتجاه ذاته ذكر القائد العسكري الأميركي الجنرال "دبليو كيزي" يوم الأربعاء الماضي, أن قواته بصدد ملاحقة "فرق الاغتيالات" واصفاً إياها بأنها القوة الرئيسية الدافعة والمحركة لارتفاع موجة حمامات الدم في العراق. ومن الجانب الآخر أعلن بعض القادة الشيعة عن استيائهم من سياسات أميركا إزاء السنة, باعتبارها محاولة لاسترضائهم على حساب الآخرين في رأيهم. وعلى حد قول المشرع الشيعي البارز عباس البياتي, فإن هذه الاستراتيجية ستقعد بالأميركيين عن واجب بناء العراق الديمقراطي الذي يعملون من أجله. وأضاف قائلاً إن التصالح مع المتمردين, إنما يشجعهم على نشر المزيد من العنف والفوضى في المنطقة بأسرها. إدوارد وانغ ودكيستر فيلكينز ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسلا صحيفة "نيويورك تايمز" في بغداد ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"