إنه بيان غير شعبي، على غير هوى الشارع العربي، ولكنه شجاع، ولعله يتحول إلى سياسة شجاعة دائمة لا تخشى في الحق لومة لائم، تقدم المصلحة العامة على الخطابية والحماسة، أتحدث عن البيان السعودي الأخير الذي حمل "حزب الله" و"حماس" مسؤولية التصعيد الأخير في غزة ولبنان، وحري به أن يكون موقفاً عربياً عاماً أو على الأقل موقف الدول العربية المؤثرة والمسؤولة، لكنه أيضاًموقف متأخر، خاصة في الشأ اللبناني. لم تتأخر السعودية وحدها، وإنما دول عربية أخرى بإهمالها حالة "حزب الله" الشاذة تحديداً والتي استمرت سنوات تنتظر تدخلاً عربياً قوياً لحسمها، والولايات المتحدة تأخرت هي الأخرى ويجب أن تُحمل مسؤولية الأزمة الحالية بتجاهلها لعملية السلام، وكأن الصراع العربي- الإسرائيلي سيحل نفسه بنفسه، إضافة إلى طبطبتها الزائدة عن كل حد على إسرائيل حتى أفقدتها الحكمة والمنطق السليم. إن توقع أزمة مقبلة على لبنان ما كان يحتاج إلى كاهن أو عراف ليرى أن سحبها كانت تتجمع في سماء المنطقة، بدءاً بـ"حزب الله" صاحب المصلحة الأولى في التصعيد الأخير، المطالب بنزع سلاحه، من قبل مختلف القوى السياسية اللبنانية، قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، فمدد من عمره "العسكري" باختطاف الجنديين، وإشعال المنطقة، إلى إيران التي تريد تغيير الموضوع بعيداً عن مشروعها النووي، إلى سوريا الغاضبة والمتألمة من فقدان موقعها وهيبتها في لبنان إذ تريد هي الأخرى تغيير الموضوع بعيداً عن نتائج التحقيقات في جريمة اغتيال رفيق الحريري، ولكليهما علاقات متداخلة مع الحزب! لقد كان وضع "حزب الله" شاذاً على الساحة اللبنانية، والجميع كان يعلم أنها مسألة وقت قبل أن يفجر الأزمة لرغبة من عنده أو من لدن غيره أو لحماقة تقع فيها إسرائيل، فمنذ الانسحاب السوري من لبنان و"حزب الله" يشعر أنه في ورطة، فهو حزب مسلح بين أحزاب تنافسه، بعضها تعود على حمل السلاح والاحتكام له، ولكنها محرومة منه بحكم "اتفاق الطائف"، تراقبه يستعرض جيشاً يكفي دولة صغيرة، وكفاءات متمرسة في القتال، وجهاز استخبارات فعال، كان للحزب جسم تحت الأرض لا يقل عما يبدو منه في العلن، ما أثار توجس وشكوك السياسيين اللبنانيين من حوله، فتجرأ البعض وطرح موضع نزع سلاحه، على أساس أن لبنان تحرر ولم يعد بحاجة إلى المقاومة، ولكن الحزب تعلل بأن التحرير لم يكتمل، وتعلل بالاحتلال الإسرائيلي لمزارع شبعا المجاورة للجولان السوري المحتل، وتعاون معه السوريون في الإبقاء على مسمار جحا، إذ رفضوا تقديم وثيقة تعترف بلبنانية المزارع، تمكن اللبناني من مقاضاة الإسرائيليين أمام محكمة العدل الدولية، مثلما فعلت مصر في قضية طابا، فتحسم المسألة قضائياً وكفى الله المؤمنين شر القتال، أو أن يعلنوا عن سورية المزارع فيكون حالها من حال الجولان المحتل، فيعلن رسمياً عن استعادة لبنان لكامل سيادته وتحرر كافة أراضيه، ويتخلى "حزب الله" عن سلاحه في احتفال مهيب، فيستوعب الجيش اللبناني بعضاً من رجاله وكل عتاده، ويتفرغ الحزب لدوره السياسي والإنمائي في خدمة شيعة الجنوب الشاكين دوماً من التهميش. أخطأنا الجميع في عدم الضغط على سوريا، لحسم الموضع وخلع هذا المسمار الذي أدمى خاصرة اللبنانيين ونشر القلق والتوتر بينهم، وكان يمكن حله بصفقة وتفاهم مع إيران وسوريا ومختلف الأطراف اللبنانية المعنية، وبالتأكيد لم يكن ذلك ليتم بسهولة، وإنما بعد مفاوضات صعبة وغضب ومسايرة وترغيب وترهيب، لكن كل ذلك أرحم مما يعيشه لبنان واللبنانيون اليوم، وما يمكن أن يستعر ليشملنا جميعاً. طال انتظار اللبنانيين، وبدأوا يشعرون بالقلق، دخلوا في جولات من الحوار الوطني، تبادلوا الاتهامات، والتحالفات، كان من الواضح أن الهدف الأساسي هو نزع سلاح "حزب الله" ونشر الجيش الوطني في الجنوب، وتضمين الحدود مع إسرائيل، ذلك أن هاجسين يحاصران كل محاولات اللبنانيين للنهوض ببلادهم، الأول هو فتنة داخلية، والثاني هو اعتداء إسرائيلي مدمر يفقد الاقتصاد اللبناني كل ما كسب من نقاط وهو ما يحصل تماماً الآن، وكلا الهاجسين يدوران حول "حزب الله" وسلاحه، فحمل رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة أوراقه إلى واشنطن قبل أسابيع، وأحضر معه وزير خارجيته، ليقول للأميركيين إن ما أحمله لكم متوافق عليه من قبل كل اللبنانيين، كان يريد نفس الطلب، تحديد هوية مزارع شبعا بأية طريقة كانت؛ بقرار من الأمم المتحدة، أو بالضغط على سوريا أو إسرائيل... المهم نزع مسمار جحا ومساعدة "حزب الله" على أن يساعد نفسه ويتحول إلي حزب مدني كغيره من الأحزاب. لعلهم لم يفهموه جيداً في واشنطن، وإن سمع عبارات التأييد والكلام العام عن الرغبة الأميركية في رؤية لبنان حر ومستقر، وتطبيق القرار 1559، كان بإمكان واشنطن أن تفعل الكثير لنزع كل احتمالات الفتنة، لو فهمت ما كان يرمي إليه الرئيس السنيورة بإثارة موضع مزارع شبعا، أقصى ما عليها أن تضغط على إسرائيل بالانسحاب من المزارع التي لا تعني لها شيئا إستراتيجيا ووجودها فيها غير شرعي ابتداء، ولو فعلت ذلك لورطت "حزب الله" ووضعته مع حلفائه في موقف حرج، ولكن الدهاء والحنكة السياسية ليس مما تعرف به الإدارة الحالية، ويكفينا ويكفيها أخطاؤها في العراق. عاد السنيورة إلى لبنان دون نتيجة تذكر، حاول مع رفقائه خلق وفاق وطني لبناني من خلال جلسات الحوار الوطني، ولكن الجميع يعلم أن سلاح "حزب الله" ليس قضية لبنانية داخلية صرفة، وإنما مسألة إقليمية، تتأثر بتطورات المفاوضات الإيرانية الأوروبية حول المشروع النووي الإيراني، والضغوط الأميركية على طهران، ونتائج التحقيق في قضية مقتل الحريري، أكثر مما تتأثر بتصريحات وليد جنبلاط النارية، أو حردنة العماد ميشيل عون. مع اشتعال الوضع في غزة، بسبب الإهمال الأميركي لعملية السلام وليس أخطاء "حماس" فقط، وانجرارها دون استراتيجية خلف عصابات المقاومة غير المنضبطة، بدا أن الظرف الإقليمي مناسب لـ"حزب الله" كي يقلب الطاولة على الجميع، ويعطي لنفسه سبباً للبقاء مسلحاً مستقلا خارج أطر الدولة والشرعية اللبنانية، فاغتنم أمينه العام حسن نصر الله الفرصة، وشن "وعده الصادق" رافعاً شعار نصرة الفلسطينيين الذين تخلى عنهم كل العرب إلا هو. بينما الأمر كله مجرد مشروع خاص بـ"حزب الله" وإيران، تورط فيه السوريون الذين يحاولون على الأقل أن يخرجوا منه لا لهم ولا عليهم في هذه المقامرة التي لم يحسبوا حسابها بعدما أصبحوا مجرد حليف يتمتع برضا إيران الكبرى! ولعل نصر الله وحلفاءه لم يتوقعوا هذا الرد الإسرائيلي الأحمق والعنيف، أو لعلهم توقعوا ذلك وأرادوا الحرب الواسعة، المهم عندهم أن يجرونا جميعاً إلى صراع واسع وربما واقع سياسي جديد في المنطقة. بقراءة هذه الخلفية يمكن أن نفهم سبب الغضبة السعودية غير المعتادة والموقف الصريح ضد المغامرات التي كلفتنا الكثير خلال سنوات الصراع العربي الإسرائيلي، ولكن من الضروري أن نفهم أيضاً أنه إذا كنت تتوقع كارثة، فالغالب أن هذه الكارثة ستقع إذا جلست تراقب دون أن تفعل شيئاً. جمال أحمد خاشقجي كاتب ومستشار إعلامي سعودي .