إن فرنسا التي تعرف انخفاضاً في معدل البطالة، ويعرب فيها تسعة من بين عشرة يافعين عن سعادتهم، سواء في البيت أو في المدرسة، وفرنسا التي يحتل اقتصادها المرتبة الخامسة عالمياً وتملك أحد أكبر القطاعات الحكومية في عموم أوروبا، وفرنسا التي يحظى مواطنوها بوظائف مضمونة مدى الحياة، وحيث تستجم في هذه اللحظة مئات العائلات الفرنسية على شاطئ البحر، أو تستمتع في الأرياف بإجازتها الصيفية بعد 23 ساعة من العمل في الأسبوع على امتداد السنة... تغوص في التشاؤم وتعاني من قلة الانشراح، الأمر الذي حير معظم الخبراء والمراقبين للشأن الفرنسي. وسبب ذلك في نظر العديد من الفرنسيين يعود إلى الخوف من المستقبل العام والخاص، في خضم المتغيرات العالمية المتلاحقة. فقد كتب عضو الأكاديمية الفرنسية المرموقة جون فرانسوا دينيو في جريدة "لوفيجارو" قائلا: "نحن في فرنسا لا نؤمن بالنمو الاقتصادي، فاستطلاعات الرأي تفيد بأن ثلثي الفرنسيين يرفضون اقتصاد السوق، وهم يحلمون بإغلاق الحدود واقتسام كعكة الوظائف المضمونة، إنه الخوف بكل بساطة". وحتى الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي يقضي سنته الأخيرة في الرئاسة تنبه إلى جو التشاؤم المخيم على البلاد، ما حدا به إلى انتقاد من يسميهم "مثيري الإحباط"، وبالنسبة لشيراك، فإن فرنسا ستظل دائماً قوية لأنها فرنسا في نهاية المطاف. لكن تفاؤل الرئيس الفرنسي لا يستطيع حجب الضربات القاسية التي تعرضت لها صورة فرنسا في أعين مواطنيها طيلة السنة الماضية ومازالت تثير نقاشاً محتدماً على طاولات العشاء، وفي المقالات التي تنشرها الصحف. فقد فوجئت النخبة الفرنسية الحاكمة برفض الشعب الفرنسي للدستور الأوروبي في شهر مايو 2005، رغم التأييد القوي الذي حظي به في أوساط الحكومة اليمينية، وأغلب عناصر المعارضة الاشتراكية. وزادت الطين بلة المظاهرات العنيفة التي شهدتها ضواحي باريس والتي كشفت مدى الغضب والاغتراب اللذين يعانيهما الشباب المنحدر من الجاليات المهاجرة في فرنسا. وأخيراً يضاف إلى ذلك فشل رئيس الوزراء الفرنسي دومينيك دوفيلبان في تمرير قانون العمل الذي رفضه الطلبة وتنكرت له النقابات العمالية. ميشيل ويفيوركا، السوسيولوجي الفرنسي البارز يقول في هذا الإطار: "هناك عدم ارتياح سياسي في فرنسا وسيستمر حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية في السنة المقبلة، وطيلة الفترة الممتدة سيطغى شعور لدى الفرنسيين بأن الأمور ليست على ما يرام وبأن الوضع سينهار". ويشير ويفيوركا إلى وجود تقليد راسخ في فرنسا اعتاد التعويل على الدولة لحل المشاكل وضبط الأمور. وما دامت الدولة التي تجسدها الحكومة تبدو ضعيفة وعاجزة عن معالجة الصعوبات الاقتصادية سيتواصل الشعور بالقلق وعدم الارتياح لدى الفرنسيين. ويضيف الخبير الفرنسي قائلا "لكن ما أن يصعد فريق منسجم إلى الحكومة حتى يشعر الفرنسيون باطمئنان أكثر". وحتى ذلك الوقت فإنه باستطاعة الفرنسيين توقع المزيد من الكتب والتحليلات التي يعكف عليها المثقفون الفرنسيون هذه الأيام، حيث تكفي جولة سريعة على عناوين الكتب لتسليط الضوء على حالة التشاؤم السائدة حاليا في فرنسا مثل "مأساة الرئيس"، و"المرض الفرنسي"، ثم "وداعا لفرنسا التي تختفي". ويبقى التحليل الأكثر تشاؤما هو ما كتبه موريس دانتيك في صحيفة "ليبراسيون" مشبهاً فرنسا بجهاز بيانو مربوط بخيط رفيع ويتدلى من علو شاهق. بيد أن التشاؤم الفرنسي غير مبرر بالنظر إلى الحقائق على أرض الواقع. فرغم نفور معظم الفرنسيين من اقتصاد السوق، واستهجانهم للعولمة في صيغتها المتطرفة خوفاً منهم على امتيازاتهم الاجتماعية المتعددة، فإن الشركات الفرنسية الكبرى مثل "رونو" و"لوريال"... اندمجت على نحو ناجح في تيار العولمة الجارف واستفادت من الاقتصاد العالمي الجديد. ويشير السوسيولوجي ويفيوركا أيضاً إلى مسألة مهمة تتعلق بكيفية تعامل فرنسا مع ذواتها في ظل المتغيرات العالمية الجديدة، وفي ظل نبرة التشاؤم التي تعم البلاد. فقد كان الفرنسيون على الدوام يتحلون بروح وطنية عالية تنظر بإعجاب مبالغ فيه أحيانا إلى التاريخ الفرنسي والمنجزات الفرنسية دون الانتباه إلى الأمور الأخرى. أما اليوم فقد بدأ الفرنسيون يعيدون قراءة التاريخ ويكتشفون فيه بعض الزوايا المعتمة، مثل دورهم في اضطهاد اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وممارساتهم المشينة أثناء فترة الاستعمار، فضلاً عن دورهم الموثق في تجارة العبيد. وفي هذا السياق يقول ويفيوركا بأن "الفرنسيين وجدوا أنفسهم مجبرين على إعادة النظر في تاريخهم على أساس جديد لا يتناول فقط ما هو إيجابي ويستثني السلبي". وبالإضافة إلى العامل التاريخي الذي قلص من حدة الوطنية لدى الفرنسيين، وبالتالي ساهم في نزوعهم نحو التشاؤم، هناك أيضاً ما هو مرتبط بسيكولوجية الإنسان الفرنسي الذي يميل بصفة عامة إلى التشاؤم في تفسيره للأوضاع من حوله. نيكولاس دوكرو أحد الكتاب الفرنسيين يؤكد هذا الطرح بقوله "إن التشاؤم جزء من الشخصية الفرنسية، فهم دائما يقولون "نعم نعرف" رغم جهلهم بالقضية موضوع الحديث، وهي طريقة للتعبير عن مزاجهم الذي يميل إلى التشاؤم"! سوزان ساش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسلة "كريستيان ساينس مونيتور" في باريس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"