بعد سنة واحدة فقط على خروج القوات السورية من لبنان وجد "حزب الله" الشيعي نفسه في مفترق طرق. فلبرهة من الزمن بدا وكأنه قد ربط مصيره بالسياسة اللبنانية بعدما تحالف مرشحوه في الانتخابات التشريعية اللبنانية مع المسيحيين وانضموا إلى الحكومة، ونظر البعض إلى "حزب الله" كنموذج ناجح في كيفية استيعاب "ميليشيا" مارقة وضمها إلى الشرعية. غير أن ما جرى هو العكس تماماً حينما تشبث "حزب الله" بسلاحه ليخرج في رأي البعض من السياق وينحاز إلى رعاته في إيران وسوريا. وبهجوم "حزب الله" على إسرائيل في الأسبوع الماضي يكون قد حسم خياره وأوضح موقفه، حيث وفر القصف الإسرائيلي المكثف على قطاع غزة الفرصة المواتية للحزب لإبداء تعاطفه مع الفلسطينيين والرمي بثقله في مجريات الأمور من خلال العملية التي فاجأت إسرائيل على حدودها الشمالية. لكن حسب المراقبين ثمة دوافع أخرى دفعت "حزب الله" إلى تنفيذ عمليته العسكرية والدخول في مواجهة مفتوحة مع إسرائيل تتمثل في رغبته إضفاء الشرعية على سلاحه وإخراس الأصوات المطالبة بنزعه. ولا ننسى أن المواجهة مع إسرائيل تساهم أيضاً في تلميع صورة مؤيديه في إيران وسوريا وتعزيز موقفهم إزاء المحاولات الغربية لعزلهم وإضعاف دورهم في المنطقة. تعاطف "حزب الله" مع "حماس" يستند إلى أساس تاريخي، حيث سبق للطرفين أن أبرما اتفاقاً سنة 2004 لتعميق التعاون العسكري والتنسيق من أجل مضاعفة الهجمات على إسرائيل. وهكذا تأتي المعارك الأخيرة التي يعيشها جنوب لبنان لتؤشر على استعداد "حزب الله" وحلفائه في المنطقة الدخول في مواجهة طويلة مع إسرائيل والغرب عموماً. فـ"حزب الله" يرى بأن هناك مسعى أميركيا إسرائيليا لإعادة صياغة المنطقة بمنطق غربي من خلال احتلال العراق والتركيز على الديمقراطية وإلغاء أي دور للإسلام في السياسة. ومع أنه لا أحد يستطيع الجزم بأن "حزب الله" تلقى أوامره مباشرة من إيران، إلا أن رؤيته للأمور تخدم المصالح العامة لسوريا وإيران في المنطقة، حيث تغدق عليه طهران المساعدات المالية بينما تكتفي سوريا بتوفير الدعم اللوجستي. ويرجع ظهور "حزب الله" على الساحة اللبنانية إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982 حيث عرف بعملياته النوعية ضد الأميركيين في بيروت التي أوقعت العديد من القتلى، ما دفع الولايات المتحدة إلى سحب قواتها من لبنان في بداية الثمانينيات. وفي 2000 أرغم "حزب الله" إسرائيل على إنهاء احتلالها لجنوب لبنان الذي دام 18 سنة. بيد أن "حزب الله" الذي كان منشغلا ًبالداخل اللبناني وطرد المحتل الإسرائيلي بدأ يعلن على الملأ تعاطفه مع الفلسطينيين في محاولة منه للحفاظ على صورته كتنظيم يقاوم الاحتلال ويناضل ضد تسلطه. وقد تجسد هذا التوجه على نحو واضح عندما بدأت الانتفاضة الثانية ضد الاحتلال الإسرائيلي سنة 2000 حيث قام الحزب بعمليات عسكرية عبر الحدود أسفرت عن أسر جنود إسرائيليين والدخول في مفاوضات شاقة بين الطرفين لتبادل الأسرى. المراقبون يقدرون عدد قوات "حزب الله" في حدود 3500 من النشطاء المؤيدين تشمل 300 من القوات الخاصة التي تتلقى تدريبها على أيدي "الحرس الثوري" الإيراني المتواجد في لبنان منذ اندلاع الثورة الإسلامية سنة 1979. وتشير تقديرات الاستخبارات الأميركية أن "حزب الله" يتلقى دعماً سنوياً من إيران يتراوح بين 100 إلى 200 مليون دولار. ومع ذلك يعتمد الحزب في تمويله بشكل أساسي على دعم الشيعة الذين يعيشون في الغرب وتتجاوز مساعداتهم ما تقدمه إيران للحزب. كما صرح الشيخ حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله في مايو 2005 بأنه يمتلك أكثر من 12 ألف صاروخ من طراز "كاتيوشا"، وهو ما يتفق مع تقديرات المسؤولين في الغرب وإسرائيل. ورغم اقتصار "حزب الله" على إطلاق صواريخ لا يتجاوز مداها 12 ميلا، فإن المسؤولين الإسرائيليين حذروا طيلة السنوات الماضية بأن إيران زودت الحزب بصواريخ أكثر تطوراً، بما فيها صاروخ "فجر3 "الذي يبلغ مداه 25 ميلاً، فضلا عن "فجر5" الذي يصل مداه إلى 45 ميلاً. ويستطيع صاروخ "فجر5" أن يضرب مدينة حيفا ومناطق بعيدة في الجنوب. ويعتقد الخبراء أن استخدام "حزب الله" لصواريخ بعيدة المدى جرى بموافقة إيرانية، إذ من المستبعد أن يكون بضعة عناصر من "الحرس الجمهوري" في لبنان أشاروا بإطلاق تلك الصواريخ على إسرائيل التي تملك أسلحة لا قبل لهم بها. وتأتي تصريحات الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الذي أوضح بأن أي استهداف لسوريا هو بمثابة استهداف للعالم الإسلامي برمته لتعبر بشكل واضح عن مدى تداخل المصالح الإيرانية والسورية في المنطقة. فالدولتان معا تسعيان إلى إثبات دورهما الإقليمي عن طريق استخدام "حزب الله" كأداة ترسل عبرها إشارة دالة إلى المراقبين الغربيين بأن وجودهما في المنطقة ثابت ويصعب تهميشه. وفي هذا الإطار يؤكد "عباس ميلاني"، المتخصص في الدراسات الإيرانية بجامعة "ستاندفورد" الأميركية وجود علاقة مباشرة بين المواجهة الحالية في الشرق الأوسط والملف النووي الإيراني، لا سيما بعدما ألمحت كل من الصين وروسيا إلى إمكانية الموافقة على إحالة إيران إلى مجلس الأمن لاتخاذ قرار ملزم حيالها. لذا تحاول إيران أن تقول للغرب إن حشرها في زاوية ضيقة من خلال التلويح بعصا العقوبات، أو التحرك العسكري، سيدفعها إلى توجيه رد قد يكون موجعاً كما نرى حالياً في لبنان. ومن ناحيته يبدو أن الرئيس السوري بشار الأسد يسير على نهج والده حافظ الأسد الذي كان كلما شعر بتراجع الدور السوري في المنطقة إلا وأجج الجبهة اللبنانية ليهرع الغرب إلى طرق أبوابه. وتخشى الحكومات العربية من جهتها أن يتجاوز النفوذ الإيراني القاعدة الشيعية في المنطقة إلى الجماعات الإسلامية السنية لتربط معها علاقات وثيقة. فهم يدركون وجود مصالح مشتركة تجمع بين إيران والنظام السوري والأحزاب الشيعية في العراق، فضلاً عن "حماس" و"حزب الله" لمواجهة النفوذ الغربي وخططه في الشرق الأوسط. نيل ماكفاركار وحسن فتاح محرراً الشؤون الخارجية في "نيويورك تايمز" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"