في الوقت الراهن على الأقل, يبدو المجتمع الدولي المنقسم على نفسه عاجزاً عن وضع حد لدوامة العنف والمنازلة الجارية بين إسرائيل وأعدائها العرب. ويبدو أن الجانبين قد عقدا العزم على المضي قدماً فيما هما عليه, غير آبهين لنداءات قمة الثماني المنعقدة في مدينة سانبطرسبرج الروسية حالياً, ولا لنظيرتها الصادرة عن مجلس الأمن الدولي, العاجز بدوره بسبب تهديد واشنطن بممارسة حق النقض "الفيتو" داخله لصالح إسرائيل. وإلى ذلك تبدو بعثة الأمم المتحدة الموفدة إلى الشرق الأوسط من قبل الأمين العام للمنظمة كوفي عنان, واثقة هي الأخرى من عدم جدواها وفاعليتها, حتى وإنْ قدر لها أن تصل إلى لبنان أصلاً. وكما نعلم فقد تحول لبنان إلى دولة معزولة براً وبحراً وجواً بسبب الحصار الذي تفرضه عليه إسرائيل. وكما يبدو فقد منح رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت قواته تفويضاً كاملاً بمواصلة قصف لبنان وقطاع غزة إلى أن تستسلم المقاومة تماماً. غير أن حسن نصر الله زعيم "حزب الله" رد على أولمرت بنبرة تحد سافر بقوله: إن أردت حرباً مفتوحة معنا فلك ما تريد. يذكر أن صواريخ "حزب الله" قد أمطرت بعض الضواحي الإسرائيلية الحدودية مثل نهاريا وصفد, بل وصل بعضها إلى حيفا. وفي الوقت ذاته أصاب صاروخ من صواريخ "حزب الله" بارجة إسرائيلية فقضت عليها, بينما عد أربعة من ملاحيها بين المفقودين. وخلافاً للحروب الإسرائيلية-العربية السابقة, التي كانت تحقق فيها إسرائيل انتصاراً سهلاً وميسوراً إلى حد نسبي, فإن الحرب الجارية الآن هي ليست حرباً بينها والدول العربية, إنما هي تحارب الآن حركات مقاومة شعبية تحظى بتأييد شعبي واسع النطاق من قبل المسلمين في العالم العربي. ولعل هذا هو أحد أهم الأسباب التي تقعد مؤسسات المجتمع الدولي عن وضع حد للأزمة الراهنة أو السيطرة عليها. بل لا مناص من القول إن العامل الأساسي لبروز هذه التنظيمات والحركات غير الحكومية الناشطة في حركة المقاومة مثل "حزب الله" وحركة "حماس", وتنظيم "القاعدة" الأكثر تشدداً وتطرفاً, هو عجز الدول والحكومات العربية عن ردع إسرائيل وغل يدها عن معاملتها الوحشية للمحتلين الفلسطينيين, وكذلك عجز الحكومات نفسها عن ردع الغزو الأميركي للعراق. ولذلك فإن حركة "حماس" و"حزب الله" إنما يسعيان لتغيير قواعد اللعبة الشرق أوسطية, وذلك بإنشاء آلية جديدة للردع, أو شكل ما من أشكال توازن القوى البدائي في المنطقة. أما الرسالة الموجهة إلى إسرائيل, والتي يمكن استنباطها من الهجومين العابرين للحدود من قبل "حزب الله" وحركة "حماس"– مع العلم أنهما الهجومان اللذان أشعلا فتيل الأزمة الراهنة- فهي: "سنضربكم مثلما ضربتمونا". هذا وقد أسفر الهجومان المذكوران– وأولهما من قطاع غزة والثاني من جنوبي لبنان- عن أسر ثلاثة جنود إسرائيليين, إلى جانب مصرع أكثر من عشرة منهم. ومن جانبها عرضت "حماس" على إسرائيل مبادلة الجندي الأسير بإطلاق سراح نحو من 10 آلاف فلسطيني أسير في السجون الإسرائيلية, وخاصة إطلاق الأسرى من النساء والأطفال. وفي المنحى ذاته عرض "حزب الله" مبادلة الأسرى الإسرائيليين لديه بإطلاق سراح السجناء اللبنانيين الذين أمضوا مدداً طويلة في السجون الإسرائيلية. غير أن "أولمرت" سارع إلى رفض هذه العروض, ليس بسبب خوفه من أن يشكل تبادل كهذا للأسرى سابقة في التعامل مع الخصوم, لا سيما وأنه قد حدث بالفعل في ماضي النزاع بين إسرائيل وأعدائها العرب, ولكن بسبب عزمه هو وجنرالاته العسكريين على الإبقاء على أحادية قوة الردع الإسرائيلي حكراً خاصاً لا مساس به. ومن جانبها تبدي إسرائيل– كما "حماس و"حزب الله"- توقاً مماثلاً لتغيير قواعد اللعبة الشرق أوسطية, شريطة أن يكون هذا التغيير لصالحها وحدها دون سواها. والطريقة الإسرائيلية لإحداث هذا التغيير هي رفع القدرة التدميرية لهجماتها بحيث تصبح باهظة التكلفة على خصومها ومدبري الهجمات المضادة لها, بل وعلى المجتمعات التي تفرز هؤلاء الخصوم. ولذلك فقد جاء ردها "غير المتكافئ مطلقاً على حد قول الرئيس الفرنسي جاك شيراك" على الهجومين الحدوديين اللذين تعرضت لهما, إنزال عقوبة جماعية شاملة على سكان قطاع غزة ولبنان, وارتكاب جرائم ترقى إلى مستوى جرائم الحرب من قبيل: تدميرها لمحطات الطاقة –التي أسفرت عن حرمان نحو 800 ألف فلسطيني في قطاع غزة من خدمات الكهرباء في عز حر الصيف وهجيره- وكذلك تدمير الطرق والجسور, وقصفها لمطار بيروت الدولي وكذلك طريق دمشق-بيروت للمرور السريع, وإغلاقها للموانئ اللبنانية إلى جانب قصفها المكثف للضواحي الجنوبية من بيروت, وهي المنطقة العالية الكثافة السكانية من المسلمين الشيعة. وفي لحظة كتابة هذا المقال, سقط ما لا يقل عن 150 فلسطينياً ومدنياً لبنانياً جراء هذا القصف والهجوم, بينما أصيب عشرات آخرون في كل من لبنان وفلسطين. والسؤال الذي لا مناص من طرحه, ما إذا كان هذا القتل الجماعي وترهيب الجيران سيؤديان إلى تحقيق النتائج المرجوة, وما إذا كان قد جاء الوقت المناسب لكي تعيد إسرائيل النظر في عقيدتها الأمنية. وفي رأيي الشخصي أن حل وتسوية النزاعات على أساس عادل, وتوخي سياسة ثابتة تقوم على حسن الجوار, تمثلان معاً وصفة أفضل وأكثر توفيقاً لاندماج إسرائيل وتكاملها الإقليمي البعيد المدى, قياساً إلى وصفة القوة الوحشية الفاشلة. وفي المقابل فإن في الهجومين الحدوديين الصاروخيين من قبل "حزب الله" وحركة المقاومة الفلسطينية في القطاع, ما يجب أن تتعامل معه إسرائيل على أنه نداء صحوة لها, ومؤشر قوي على حدوث تغيير في طبيعة الحرب نفسها. فليس ثمة جديد في هذه المنازلة التي أبداها الخصمان العربيان لإسرائيل. وقد عبرت هذه المنازلة عن نفسها بقوة في العمليات الانتحارية التي نفذتها حركة المقاومة إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية, وكذلك حرب العصابات الشرسة التي تمكن بها "حزب الله" من وضع حد لاثنين وعشرين عاماً من الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. غير أن تحولاً نوعياً طرأ الآن على طبيعة وقاعدة الحرب هذه. ويتمثل هذا التحول في نقل مقاومة الاحتلال إلى مرحلة جديدة, تشمل تنفيذ عمليات هجومية داخل الحدود الإسرائيلية. وما لم تدرك إسرائيل أنه ليس بوسعها الاستمرار في فرض احتلالها وشروطها على العرب, وأن اللحظة قد حانت لإبرام تسوية سلمية للنزاع, تشمل التفاوض مع الأطراف الفلسطينية واللبنانية والسورية معاً, فليس مستبعداً أن يفضي هذا التحول النوعي إلى انتشار ثقافة القتل الجماعي, وتطوير الصواريخ بعيدة المدى القادرة على ضرب العمق الإسرائيلي, إلى جانب اندلاع ثورات وانتفاضات شعبية إسلامية معادية لإسرائيل في الدول المجاورة مثل مصر وغيرها. بل وفي أسوأ السيناريوهات المتوقعة وأكثرها كارثية, فليس مستبعداً أن يجري تفجير الـ"قنابل القذرة" داخل المدن الإسرائيلية نفسها.